استكملنا الحديث فى المقالة السابقة عن «خماروية» فى حكم مصر حتى وفاته، وتولى ابنه «جيش» حكم البلاد خلفًا له.
«أبوالعساكر جيش بن خُمارَوَيْه» 282-283هـ (896م)
تولى «أبوالعساكر جيش بن أبى الجيش خُمارَوَيْه» حكم «مِصر» و«الشام»، بعد مقتل أبيه، فمع أنه لم ينَل مبايعة بعض من كبار قواد جيشه بسبب قلة ما كان له من مال وعدم قدرته على إغداق الأموال عليهم لخواء خزائن المال بسبب إسراف «خُمارَوَيْه» وبخاصة فى تجهيز ابنته، فإن عددًا من القواد بايعوه على صغر سنه وقلة خبرته؛ إذ كان فى الرابعة عشْرة!
وعند تولى «جيش» الحكم، أقبل على حياة اللهو مع غِلمان آخرين، فصاروا بطانته التى أثّرت سلبًا فى حكمه؛ وكانت أولى تحريضاتهم هى على عمه فدبر أمر قتله؛ وعندما أدرك الناس فعلته نفروا عنه، ولم يرغبوا فى استمرار حكمه. كذٰلك انشغل عن مراعاة أمور رعيته وقواده وساءت الأمور جدًّا حتى تركه كبار قواده، ورحلوا إلى «الكوفة» حيث استقبلهم الخليفة استقبالاً حسنًا، وأجزل لهم العطاء.
وفى تلك الأثناء، ازدادت الأمور سوءًا فى «مِصر» مع انشغال «جيش» باللهو؛ فثار عليه أمير «دمَِشق» وأمير الثغور وخلعاه من حكم البلاد، لٰكنه لم يعتدّ بالأمر. أمّا غِلمان أبيه، فعندما رأَوا تلك الحالة التى وصلت إليها البلاد، اجتمعوا على خلع «جيش» من حكم «مِصر» وقبضوا عليه وأحضروه إلى مجلسهم، فأقر بعدم قدرته على إدارة شُؤون البلاد. إلا أن هناك رواية أخرى تقول إن الجند حين رأَوا عدم اكتراثه بأمور البلاد قاموا عليه، وطلبوا منه أن يتنحى عن الحكم، وأن يولّوا عمه «نصر»؛ فما كان منه إلا أن قتل عمه «نصر» وعمه الآخر وألقى برأسيهما إلى الجند! فقام عليه الجند، وقتلوه هو وأمه، ونهبوا ما لديه، وملّكوا أخاه «هارون» بدلاً منه. وثالثة تقول إن أهل «مِصر» لم يرضَوا به ملكًا عليهم مريدين أخاه «هارون»؛ فقتله «هارون» وحكم البلاد مكانه؛ وغيرها من الروايات. وكان موت «جيش» بعد عدة أشهرـ قيل خمسة أو سبعةـ فى أيام حكم الخليفة «المُعتَضِد بالله».
الخليفة المُعتَضِد بالله 279-289هـ (892-902م)
هو أبوالعباس أحمد بن أبى الموفَّق. وكان قد انشغل بأمور الحروب وأعمال الدولة فى أثناء حياة أبيه «الموفَّق»، ثم نجح أبوه «الموفق» فى إسناد ولاية العهد إليه قُبيل وفاته، بعد خلع المفوَّض بن «المُعتَمِدـ كما ذكرنا سابقًا. اعتلى الحكم والخلافة بعد وفاة عمه «المُعتَمِد».
اشتُهر بالشجاعة والإقدام، واستطاع أن يعيد للدولة العباسية بعضًا من مجدها القديم، وتمكن من استعادة بعض الولايات والأقاليم التى فقدتها. كذٰلك استطاع القضاء على الثوْرات والفتن والقلاقل فى عدد من البُلدان، لٰكنه كان ميّالاً إلى سفك الدماء حتى إن المؤرخين أطلقوا عليه لقب «السفاح الثاني»!!
قام بعدد من الإصلاحات فى الدولة، وخصوصًا فى أمور المواريث والتركات، وأغلى ديوان المواريث- الذى كان يسبب عناءً كبيرًاـ مما أكسب المُعتَضِد ثناء رعيته؛ كما قام بعمل التقويم «المُعتَضِدىّ» وغيّر أوائل السنة من «مارس» إلى «يونيو»، وأبطل احتفالات عيد النيروز (الفارسىّ) الذى كان يُحتفل به احتفالاً عظيمًا فى البلاد، وجعل جمع الضرائب فى مواعيد ثابتة فى شهور الثمار والغلات، فيذكر المؤرخ «ابن الأثير»: «فيها (أى سنة 282هـ) أمر المُعتَضِد بالكتابة إلى الأعمال كلها والبلاد جميعها بترك افتتاح الخَُِراج فى «النيروز» العجمى، وتأخير ذٰلك إلى الحادى عشَر من «الحُزَيران» سمّاه «النيروز المُعتَضِدى»، وأُنشئت الكتب بذٰلك من «الموصل» و… والحديث عن «مِصر الحلوة» لا ينتهى!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطيّ الأرثوذكسى