كان حديث المقالة السابقة عن ترشيح «القديس البابا كيرلس السادس» – وهو مازال «القمص مينا المتوحد» – للبطريركية دون معرفته، إذ كان يدرك رهبة هذه المسؤولية الخطيرة، حاسبًا نفسه غير أهل لها. إلا أن الإرادة الإلهية كانت ترى فيه راعيًا صالحًا يستحق أن يكون راعى الرعاة، فسِيمَ بطريركًا فى 10/5/١٩٥٩م، وقد اختار اسم «كيرلس».
واليوم، يحتفل أقباط «مِصر» بذكرى نياحة مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث» (السابع عشَر بعد المائة فى بطاركة الكرسى المَرقسى). ونتحدث اليوم عن لقاء كل من «القديس البابا كيرلس السادس» وتاليه على الكرسى المرقسى «البابا شنودة الثالث».
لقد آثر الشاب «نظير جيد» (البابا شنودة الثالث) ترك العالم، واختيار الحياة الرهبانية التى امتلكت أفكاره ومشاعره، على الرغم من النجاح الكبير الذى كان يحققه فى الحياة!! إذ قال: «وكان نزوعى قويًّا إلى الزهد فى متاع هذا العالم، وإلى الرهبنة، وليس مردّ ذلك إلى أننى كنت انطوائيًّا، بل إننى على العكس من ذلك كنت بالغ النجاح فى حياتى الاجتماعية. لكن الدافع الكامن فى أعماقى كان أقوى من كل ما هو معروض أمامى»، وقد صور بقصيدته «غريب» مشاعره هذه:
تَرَكْتُ مَفَاتِنَ الدُّنْيَا/ وَلَمْ أَحْفَلْ بِنَادِيهَا
وَرُحْتُ أَجُرُّ تَرْحَالِى/ بَعِيدًا عَنْ مَلَاهِيهَا
خَلِىَّ الْقَلْبَ لَا أَهْفُو/ لِشَىءٍ مِنْ أَمَانِيهَا
نَزِيهَ السَّمْعِ لَا أُصْغِى/ إِلَى ضَوْضَاءِ أَهْلِيهَا
أَطُوفُ ههُنَا وَحْدِى/ سَعِيدًا فِى بَوَادِيهَا
بِقِيثَارِى وَمِزْمَارِى/ وَأَلْحَانٍ أُغَنِّيهَا
وَسَاعَاتٍ مُقَدَّسَةٍ/ خَلَوْتُ بِخَالِقِى فِيهَا
أَسِيرُ كَأَنَّنِى شَبَحٌ/ يَمُوجُ لِمُقْلَةِ الرَّائِى
غَرِيبًا عِشَتُ فِى الدُّنْيَا/ نَزِيلًا مِثْلَ آبَائِى
عاش «نظير جيد» محبًّا للجميع، عاملًا على إسعادهم، حتى يحين الانطلاق إلى البرّية، فيقول: «لقد قررتُ أن أعيش مع الناس، وأسعدهم ما استطعت ما دمت موجودًا بينهم. وحين أخلو بنفسى، أصفو لها، وأعيش لربى، إلى أن يُطلقنى الله بسلام من جو العالم إلى حياة الرهبنة». وفى 18/7/ 1954م ترهب الشابّ «نظير جيد» ليصبح «الراهب أنطونيوس السريانىّ»، وعام ١٩٥٦م بدأ حياة الوَحدة بمغارة تبعد عن الدير 5‚ 3 كيلومترات.
ومع بداية حبرية «القديس البابا كيرلس السادس» اختار الراهب «أنطونيوس السريانى» سكْرتيرًا له وكان ذلك فى يونيو ١٩٥٩م، لكنه سرعان ما اشتاق إلى حياة الوَحدة، فعاد إلى «دير السريان» فى سبتمبر من السنة نفسها، ثم انتقل سنة ١٩٦٠م إلى مغارة أخرى تبعد 12 كيلومترًا.
ثم جاءت لحظة اختيار «القديس البابا كيرلس» للراهب «أنطونيوس السريانىّ» لسيامته أسقفًا عامًا فى 30/9/1962 م ليصبح أول أسقف عامّ للتعليم والمعاهد الدينية والتربية الكنسية باسم «أنبا شنودة»، وكان ذلك حين صحِب «أنبا ثاؤفيلوس» رئيس دير السريان الراهب «أنطونيوس» للقاء «القديس البابا كيرلس السادس»، لأمر مهم يختص بزيارة بَعثة ألمانية للدير، وفى أثناء اللقاء أعلن «البابا كيرلس» رغبته للراهب «أنطونيوس» أن يصبح مسؤولًا عن الكلية الإكليريكية ومدارس الأحد، لكنه اعتذر. فحاول «البابا كيرلس» إقناع الراهب المتوحد الزاهد بقَبول الأسقفية، لكنه ازداد اعتذارًا. وكان حين أن اقترب «الراهب أنطونيوس»، منحنيًا أمام البابا لنَيل البركة قبيل المغادرة، أن وضع البابا الصليب على رأسه ممسكا به بقوة ضاغطًا عليه لئلا ينفلت ويهرُب، قائلًا: «شنودة» أسقف للتعليم والتربية الكنسية!! وقبل أن يفيق من هول المفاجأة، بادره «البابا كيرلس» بمنعه من مغادرة البطريركية حتى الانتهاء من مراسم السيامة الطقسية!!! ويذكر «البابا شنودة الثالث»: «لقد تم الأمر فى الواقع بخُدعة صغيرة، كنت أحبّ أن أحيا حياة الوَحدة والتأمل، بعيدًا عن هذه الوظائف الرسمية، غير أننى طُلبت لمقابلة «البابا كيرلس السادس» نفسه لأمر مهم، ولم يكُن بوسعى معارضته، وفى أثناء المقابلة ناقشنى فى هذا الأمر، ثم حُسم الموضوع! ففيما أنا خارج من عنده، وضع يديه على كتفى، وقال: كذا وكذا… ولم تكُن إبراشية خالية ذلك الوقت، فكنت أوَّل شخص رُسم أسقفًا عامًّا فى هذا الجيل، وقال لى: لم يعُد لك الحق فى أن تترك هذا المكان.
ووجدت نفسى فى وضع لا أستطيع الفِرار منه! وتذكرت فى ذلك الحين عبارة قالها «إرميا النبىّ»: «عرفتُ يا رب أنه ليس للإنسان طريقه. ليس لإنسان يمشى أن يهدى خطواته». واضطُررتُ إلى الخضوع للأمر الواقع. ثم أقيمت الحفلات الرسمية الكنسية الطقسية، وتمت رسامتى أسقفًا، وكان ذلك فى أيلول (سبتمبر) عام ١٩٦٢م». و… والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى