تحدثت مقالة سابقة من سلسلة مقالات “مدينة السلام” عن حكم “أيبَك” لمدينة “القدس”، ثم السلطان “الناصر يوسف” حاكم “دمشق” سنة ١٢٥٦م، حتى هددها المغول الذين استعان بهم الخليفة العباسيّ “الناصر لدين الله” (١١٨٠-١٢٢٥م)؛ ما فتح الباب لأطماعهم التوسعية فدخلوا “بغداد” ودمروها وقضَوا على الخلافة العباسية. وأشارت المقالة إلى موجة اجتياح التتار لبلاد “الشام”، متجهين إلى “مِصر” حيث تمكن سلطان المماليك “سيف الدين قطز” من هزيمتهم في معركة “عين جالوت”؛ فآل حكم مدينة “القدس” إلى المماليك بعد كسرهم شوكة التتار. وقد حول المماليك مدينة “القدس” إلى إمارة مستقلة تتبعهم مباشرة .كذٰلك تصدوا المماليك لحملات الفرنج حتى رحلوا عن الشرق.
استمرت دولة المماليك في حكمها ما يتجاوز قرنين ونصف القرن (١٢٥٠-١٥١٧م(، لٰكن نتيجة لعدد من العوامل الداخلية والخارجية انتهى حكمهم بيدالعثمانيين: فقد انتشر الفساد، وعمت الفوضى، وتفشت ظاهرة الرشاوى واستغلال النفوذ، مع ضعف حكام المماليك أنفسهم وانشغالهم بالصراع على السلطة وإهمال شؤون الدولة. وإلى جانب كل هذا ما خاضته دولة المماليك من حروب مع التتار والفرنج أزمنة طويلة، ثم حربهم مع الدولة العثمانية، حتى هُزموا في معركة “مرج دابق” سنة ١٥١٧م ومات السلطان “قَنْصُوه الغوري”.
بدأ العثمانيون دولتهم من الأناضول (جنوب شرق “تركيا” الحالية)، ثم توسعؤا حتى أحاطت الأراضي العثمانية بمدينة “القسطنطينية”؛ ما أثار حفيظة الفرنج فقادوا حملة كبيرة لمحاربتهم والعودة إلى مدينة “القدس” مرة أخرى، لٰكنهم هُزموا فى عدد من المعارك كمعركة “نيكوبولي” (أو “نيكوبوليس”(. وقد تمكن العثمانيون من فتح “القسطنطينية” سنة ١٤٥٣م. أما مدينة “القدس”، فقد انضمت إلى الإمبراطورية العثمانية سنة ١٥١٧م في عهد السلطان العثماني “سَليم الأول” واستمرت تحت لوائها حتى سنة١٩١٧م.
عقب انتصار السلطان “سليم الأول” على المماليك اتجه صوب “حلب” و”دمشق”، ثم دخل “القدس” وقضَّى بهاوقتًا؛ وقد ذُكر أنه كان يرغب في تجديد سورها لٰكن الوقت لم يمهله، فأتمه من بعده ابنه السلطان “سليمان القانوني” إذ حظيت المدينة باهتمامه الكبير، وبنى أيضًا البرج الكائن على يمين الداخل من “باب الخليل”، وبركة السلطان على طريق المحطة، و”قبة الصخرة”، وغيرها.
وفي أثاء الحكم العثماني الذي امتد قرونًا من الزمان تباينت الأمور ما بين الهدوء والاهتزاز، وتعرضت مدينة “القدس” لعدد من الأزمات: منها أن السلطان “مراد الرابع” (١٦٢٣-١٦٤٠م) أصدر قرارًا بمنع شرب القهوة وتدخين التبغ، فثار أهل “القدس” واختل الأمن فترةً. كذٰلك اندلعت ثورة في أيام السلطان “أحمد الثالث” (١٧٠٣-١٧٣٠م) لٰكنه تمكن من إخمادها. وحين قامت الحملة الفرنسية بقيادة “نابليون بونابرت” على “مِصر” و”سوريا” (١٧٩٨-١٨٠١م)، كانت “القدس” تابعة لولاية “عكا” ولم يدخلها “نابليون”.
ومع اعتلاء “مُحمد علي باشا” عرش “مِصر” (١٨٠٥-١٨٤٨م) – إذ بايعه علماء “مِصر” وأعيانها بعد أن ثار شعبها على سلفه “خورشيد باشا”؛ ووافق السلطان العثماني “سليم الثالث” على طلبهم بتعيينه واليًا على “مِصر” وعزل “خورشيد باشا” – أرسل جيشًا قويًّا بقيادة ابنه “إبراهيم باشا” إلى “الشام”؛ وسيطر على مدينة “القدس” سنة ١٨٣١م لتصبح تحت حكم أبيه. وفي “القدس”، فُرض التجنيد إجبارًا، فقامت ثورة على “إبراهيم باشا” اتقدت نيرانها سنة ١٨٣٤م واضطربت أمور البلاد على نحو شديد؛ ما أدى إلى تدخل عدد من البلاد الغربية؛ وتحطم جيش “إبراهيم باشا” وعاد إلى بلاده تاركًا بلاد “الشام”، بعد قرابة عشرة أعوام كان قد أدخل خلالها أول طاحونة للقمح، وبنى الزاوية الإبراهيمية وعددًا من القلاع بين “القدس” و”يافا”، وغيرها من الأعمال.
و.. وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسي