تحدثت المقالة السابقة عن حقبة عاشتها مدينة “القدس” تحت الحكم البريطانيّ، عندما سلَّمها عمدتها للقائد العام البريطانيّ. ثم التمهيد البريطاني لإقامة دولة صهيونية على أرض مدينة “القدس”، فظهر على الساحة السياسيّ البريطانيّ اليهوديّ Herbert Samuel ليكون أول مندوب سامٍ لبلاده في “فلسطين”. وقد احتج الشعب الفلسطينيّ بعدد من التظاهرات على إجراءات السياسة البريطانية الداعمة لليهود، ما أدى إلى إرسال Winston Churchill إلى المنطقة لمراجعة السياسة البريطانية هناك، فالتقى وفدًا فلسطينيًّا قدم مذكرة احتجاج على السياسة البريطانية الداعية إلى إقامة وطن قوميّ لليهود بـ”القدس”، وطالب الوفد بإيقاف بيع أراضي “فلسطين” لليهود وبمنع هجرتهم إليها وبإلغاء “وعد بلفور”.
وفي ٢/١١/١٩١٧ أرسل وزير الخارجية البريطانيArthur James Balfour خطابًا إلى البارون Edmond James de Rothschild- أحد زعماء اليهود داعمي الصهيونية في “بريطانيا”، مقدِّمًا فيها تعاطف “بريطانيا” مع مساعي الحركة الصهيونية، ومحاولاتها التي لم تتوقف من أجل إقامة وطن لليهود على “فلسطين”. وقد طلب Balfour في رسالته أن يبلغ البارون Rothschildزعماء الحركة الصهيونية في كل من “بريطانيا” و”أيرلندا” بموقف الحكومة البريطانية من الحركة الصهيونية. وقد جاء نص الرسالة كما يلي:
“وزارة الخارجية
الثاني من نوڤمبر/تشرين الثاني سنة ١٩١٧
عزيزي اللورد روتشيلد،
يسرني أن أبلغكم، بالنيابة عن حكومة جلالته، بالتصريح التالي الذي يعبّر عن التعاطف مع طموحات اليهود الصهاينة التي قُدمت إلىالحكومة ووافقت عليها:
«إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في «فلسطين»، وستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذه الغاية، على ألا يجري أيّ شيء قد يؤدي إلى الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية للجماعات الأخرى المقيمة في «فلسطين»، أو من الحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى، أو يؤثر في وضعهم السياسي».
أكون ممنونًا لك إذا ما أحطتم «الإتحاد الصهيوني» علمًا بهذا البيان.
المخلص
آرثر بلفور”
وعلى الرغم أن الرسالة لم تذكر تعبير “إقامة دولة لليهود”، بل “وطن قوميّ للشعب اليهوديّ”؛ فإنها كانت حجر الأساس الذي قامت عليه دولة “إسرائيل” على أرض “فلسطين” سنة ١٩٤٨م.
أما موقف السياسيّ البريطاني Churchill من المطالبات الفلسطينية، فكان عدم الاهتمام بها! وهو ما أدى إلى قيام مظاهرات واحتجاجات، فيذكر “موقع القدس”: “لكن الوزير البريطانيّ لم يُلقِ بالاً لشيء من تلك البنود، فاشتدت المظاهرات والاحتجاجات العربية في «فلسطين» على «بريطانيا»، وهو الأمر الذي واجهه البريطانيون بقوة وعنف، حتى وجهوا رصاصهم إلى صدور المتظاهرين طلبًا لحقوقهم، فسقط بعض الشهداء والجرحى من الفلسطينيين، مما زاد الاحتجاجات اشتعالاً”.
وقد شهِدت “القدس” مؤتمرًا للعرب الفلسطينيين سنة١٩٢١ للمطالبة بعدم تنفيذ “وعد بلفور”، وتألَّف وفد فلسطينيّ طاف البلاد، ومنها “لندن”، لٰكنه لم يلقَ ترحيبًا، فذُكر: “وذهب (الوفد الفلسطينيّ) إلى«لندن» نفسها، لٰكنها لم تُعِره اهتمامًا، بزعم أنه وفد غير رسميّ، ورفض الإنجليز إعطاء العرب في «فلسطين» أيّ مؤسسة انتخابية لإقامة حكومة نيابية، كما رفضوا مذكرة الوفد المطالبة بإلغاء فكرة إقامة الوطن القوميّ اليهوديّ على أرض «فلسطين»، وبإيقاف الهجرة اليهودية، والامتناع عن فصل «فلسطين» عن محيطها العربيّ. وظل التعنت عنوانًا على السياسة البريطانية تجاه الفلسطينيين حتى النهاية.”.
وقد ظل التوتر بين بريطانيا والفلسطينيين يجتاح وطنهم إزاء قضاياه بعد رفض المطالب العربية التي تقدم بها وفد فلسطينيّ ثانٍ سنة ١٩٢٢: بإعطاء الفلسطينيين الحق في اختيار سلطتي البلاد التشريعية والتنفيذية، وذٰلك بعد أن أرادت بريطانيا أن تفرض مجلسًا تشريعيّ ًاذا أغلبية يهودية، وتحت رئاسة مندوبها السامي. وقد أكد Churchill في رسالة أن “بريطانيا” لن تُلغي “وعد بلفور” وإقامة وطن قوميّ لليهود.
و.. وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسي