تحدثنا في المقالة السابقة عن كَنز الأمانة في حياة الإنسان، وأهمية الأمانة عند الأديان للإنسان المؤمن، ثم تحدثنا عن أمانة الإنسان لله، وأمانته نحو نفسه . ونتحدث اليوم عن أمانة الإنسان في عمله . إن الإنسان الأمين يكون مخلصًا فيما يُسند إليه من عمل، ويقوم به علي خير وجه. فلكل منا حسب موقعه: مسئولًا، عاملًا، موظفًا، طالبًا، دوره الذي يجب أن يؤديه بأمانة وإيجابية؛ وبضمير صالح وخيِّر فيما أوكل إليه. كذلك فإن الأمين في أداء عمله لا يتغير أداؤه حال وجود رقيب عليه أو عدم وجوده، لأن ضميره يكون هو الرقيب عليه في كل ما يعمل. لذا تجده شخصًا مطمئنًا لا يخشي إنسانًا أو أمرًا ما؛ لأنه يتمم عمله علي أفضل وجه .
ولا أنسي قصة قرأتُها بصدد هذا الموضوع عن أحد المزارعين وكان يمتلك قطعة أرض تُطل علي المحيط الأطلسيّ، وقد أعلن احتياجه إلي تعيين عامل يساعده في أعمال المزرعة. إلا أن عمالًا كثيرين لم يرغبوا في العمل لديه بسبب العواصف المروِّعة التي تهُب محطمة المنازل ومدمرة المحاصيل. حتي تقدم للعمل رجل تخطي منتصف العمر، فسأله المزارع: أأنت عامل جيد؟ أجاب الرجل: حسنًا، أنا أستطيع النوم عندما تعصف الريح!! كانت إجابة الرجل غامضة، ولكن المزارع كانت حاجته شديدة؛ فقام بتعيينه في الحال. وعمِل الرجل بأمانة وجِدّ في المزرعة مما أسعد المزارع. وفي إحدي الليالي، هبت عاصفة شديدة فقفز المزارع من سَريره وأسرع إلي غرفة العامل وأيقظه صائحًا: انهض سريعًا! هناك عاصفة قادمة، هيا اربُِط الأشياء قبل أن تحطمها الرياح. إلا أن العامل لم يتحرك وقال: لا يا سيدي !! لقد أخبرتك أنني أستطيع أن أنام عندما تعصِف الريح. قرر المزارع الاستغناء عن هذا العامل، ولكنه أسرع أولًا ليُعد نفسه للتصدي للعاصفة. ولدهشته وجد كل شيء محصنًا ضد العاصفة: فالتبن تغطَّي بمشمع واقٍ من المياه، والحيوانات في أماكنها، والأبواب موصَدة تمامًا. عندئذ فهِم المزارع كلمات العامل ، وعاد إلي فراشه لينام هو أيضًا عندما تعصِف الريح. هكذا كل من يعمل بأمانة يعرف معني الاطمئنان والهدوء؛ لا يخشي. شيئًا لأنه فعل كل شيء علي أفضل ما يكون، ولم يدَّخِر جُهدًا في إتمام عمله فبات في سلام لا يعرف القلق أو الندم. فبأمانتك ستربح: بركة الله، نجاحك وتفوقك وتميزك؛ مما يزيد من ثقتك بنفسك، وثقة الآخرين بك.
وأيضًا الأمانة في العمل تنجي الإنسان وتُنقذه. أتذكر قصة أحد الملوك الذي استدعي ذات يوم وُزراءه الثلاثة، وطلب أن يأخذ كل منهم كِيسًا ثم يذهب إلي بستان القصر ويملؤه للملك ثمارًا وزروعًا جيدة. وقد أصر علي أن يقوم كل منهم بأداء المهمة بنفسه دون الاستعانة بأحد. تعجب الوزراء الثلاثة من أمر ملكهم، ولكنهم لم يجدوا سبيلًا سوي تنفيذ أمره. حمَل كل منهم كِيسه وانطلق إلي البستان. كان الوزير الأول محبًّا للملك وأمينًا في عمله؛ فجمع من أفضل الثمار وأجودها حتي امتلأ كِيسه. والثاني أدي عمله بإهمال جامعًا كل ما وجده من ثمار جيدة أو رديئة حتي امتلأ الكِيس. أمّا الثالث فلم يكُن أمينًا علي الإطلاق في عمله معتقدًا أن الملك لن يهتم بما جمعه؛ فملأ الكيس بالحشائش وأوراق الأشجار. وفي اليوم التالي، وقف الوُزراء الثلاثة أمام الملك يحملون أكياسهم، وما أن رآهم الملك حتي أمر جنوده بأن يسجنوا الوُزراء الثلاثة كلًّا مع كِيسه ثلاثة أشهر دون طعام أو شراب. وبذلك تحمَّل كل منهم نتيجة أمانته في العمل؛ فالوزير الأول أكل من الثمار الطيبة التي جمعها حتي انقضت الأشهر الثلاثة، والثاني عاش حياة قاسية معتمدًا علي الثمار الجيدة التي جمعها فقط، أمّا الثالث فقد مات إذ لم يجد ما يأكله. وبالرغم من رمزية القصة، إلا أنها تضعنا أمام حقيقة أن ما سنحمله معنا في طريق حياتنا هو أمانتنا في كل ما أُوكل إلينا من عمل في هذه الدنيا. وعن الأمانة للحديث بقية …
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ