تحدثنا في المقالة السابقة عن أمانة الإنسان في العمل. ونستكمل اليوم الحديث عن أمانة الإنسان في تعاملاته نحو الآخرين. فالإنسان الأمين تجاه الآخرين يكون إنسانًا أمينًا في كلماته وأقواله مدركًا أن الصدق هو أفضل سبل الحياة. ويبدأ صدق الإنسان في معاملاته بصدقه أولًا مع نفسه. يقولون: “ازرعِ الصدق تحصدِ الثقة والأمانة”؛ نعم، فصدق الإنسان يجعله مصدر ثقة لمن حوله. فالإنسان يكون صادقًا في المعلومات التي يقدمها إلى أيّ إنسان ولا يُخفي الحقيقة أيًّا كانت نتائجها. من القصص الطريفة التي قرأتُها عن أحد الأشخاص وقد تتبَّعه اللصوص، أنه بينما هو يهرب التقى رجلًا يقطِّع الأخشاب؛ فطلب إليه أن يخبئه من اللصوص، فأشار عليه بالاختباء في كُومة حطب. وعندما أتى اللصوص وسألوا الحطاب هل كان قد رأى أحدًا يجري قبل قليل، أخبرهم بأن شابًّا يختبئ في الحطب! فسمِع الشاب حديث الحطاب، وكاد قلبه أن يقف لولا أنه وجد اللصوص تسخر من الحطاب قائلين بعضهم لبعض: إنه يريد أن يَُعيقنا عن ملاحقة الشاب، وانصرفوا بسرعة. فخرج الشاب غاضبًا، وقال للحطاب: لِمَ أخبرتَهم بمكاني بعد أن ارتضَيتَ أن تخبئني؟ فقال الحطاب: يا بُنيّ، إن الصدق هو ما ينجي الإنسان. والصادق أيضًا يصدُق في وعوده. ومن القصص المؤثرة التي قرأتُها كانت عن واحد من أقسى زلازل القرن العشرين وأكثرها تدميرًا. حدث ذاك الزَّلزال عام 1989م في أرمينيا وأودى بحياة أكثر من خمسة وعشرين ألف إنسان في دقائق معدودات! وشُلَّت المنطقة التي ضُربت بالزَّلزال لتتحول إلى خرائب متراكمة. وعلى أحد أطراف تلك المنطقة، كان يسكن فلاح مع زوجته، وقد تخلخل منزله وإن كان لم يسقط. وبعد أن اطمأن الرجل على سلامة زوجته، ركض نحو المدرسة الابتدائية التي يدرُس بها ابنه. وعندما وصل الفلاح، شاهد مبنى المدرسة وقد تحول إلى حُطام. وقف الرجل يملأه الذهول والوُجوم لحظات، وتذكر ما كان يردده دائمًا لابنه: تذكر دائمًا يا بُنيّ أنه مهما يحدث فأنا دائمًا إلى جوارك. وبدأت دموعه تنهمر، إلا أنه أسرع يجففها مركزًا تفكيره ونظره في أنقاض المبنى ليحدد موقع فصل ابنه الدراسيّ. وبعد أن تذكر موقعه، ركض نحوه وبدأ يُزيح الأنقاض، على حين وقف الناس حوله يملأهم اليأس والذهول. حاول أحدهم أن يوقف ما يفعله ويُبعده عن المكان قائلًا: لقد فات الأوان، فقد ماتوا. فما كان منه إلا أنه قال وهو مستمر في الحفر: هل لك أن تساعدني؟! وتابع الرجل يُزيل الأحجار واحدًا تَلو الآخر، في الوقت الذي اقترب فيه إليه أحد رجال الإطفاء راغبًا في منعه من الحفر لئلا يتسبب في إشعال حريق. فأجابه: هل لك أن تساعدني؟! وهٰكذا استمر في محاولاته. أسرع إليه رجال الشرطة معتقدين أن الرجل جُن، وقالوا له: إنك بحفرك هٰذا قد تُسبب خطرًا وتهديمًا بالأكثر. فصرخ في الجميع: إما أن تساعدوني، أو اتركوني!! فتركوه. وقيل فيما بعد إن الرجل استمر يحفِر ويُزيح الأحجار بيدين نازفتين مدة 37 ساعة حتى ظهرت له فجوة!! فأخذ ينادي: أرماند! فأتاه صوت ابنه يقول: أنا هنا يا أبي!! لقد شجَّعتُ زملائي بأنك حتمًا ستأتي لإنقاذنا، فقد وعدتني أنه مهما كان فأنت تكون إلى جانبي!! ومات أربعة عشَر تلميذًا، وأُنقذ ثلاثة وثلاثون آخرون؛ ولو جاء الإنقاذ بعد عدة ساعات أخرى لماتوا جميعا. وما ساعد على إنقاذهم هو أن المبنى انهار على شكل مثلث. ونُقل الرجل بعد هٰذا إلى المستشفى ليخرج بعد عدة أسابيع. واليوم الوالد متقاعد، ويعيش مع زوجته وابنه المهندس الذي كثيرا ما يردد لوالده في اعتزاز: مهما يكُن فأنا أكون إلى جانبك! و … وللحديث بقية …
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ