تحدثنا في المقالة السابقة عن الحكمة في الحُكم من خلال قصة الملك سليمان ـ أحكم ملوك الأرض ـ مع المرأتين اللتين أتتا إليه ليحكم بينهما، وقد أبرز حُكمه الحكمة الموهوبة له من الله. كذلك قدمنا أيضًا قصة أحد القضاة الذي كان يحكم بالعدل والفطنة والحكمة بين رعايا البلاد. واليوم نستكمل الحديث عن الحكيم والحكم، يقول الكتاب: “ألعل الحكيم يجيب عن معرفة باطلة ..؟” فالإنسان الحكيم لا يتسرع في الحكم علي الناس، أو يتخذ منهم مواقف دون معرفة كل بواطن الأمور حتي يكون حُكمه أو تقييمه عادلًا وصحيحًا؛ فلا يظلم أحدًا أو يجرح إنسانًا بكلماته. وهنا تحضُرني قصة أعجبتني جدًا عن أهمية إدراك الأمور وأبعادها في حكم الإنسان. كان القطار يسير سريعًا وعلي أحد كراسيّه يجلس رجل عجوز وابنه الذي يبلغ من العمر 25 سنة. كان الشاب يجلس جوار النافذة وقد بدت علي وجهه ملامح السعادة والبهجة. وأخرج يديه من نافذة القطار وكأنه يريد أن يمسك الريح بيديه، ثم صرخ بفرحة غامرة لأبيه: أبي، اُنظر الأشجار، إنها تسير خلفنا! ابتسم العجوز لابنه مُبديًا سعادته لفرحة ابنه. وكان يجلس أمامهما رجل وزوجته يستمعان إلي الحديث بين الأب وابنه. وشعَرا بالإحراج الذي قد يكون فيه العجوز لتصرفات ابنه الشاب الذي يتصرف كالأطفال! ولكنهما فوجئا بصراخ الشاب مرة أخري وهو يتحدث لأبيه: أبي، اُنظر إلي البحيرة، وإلي الحيوانات، اُنظر السحب وهي تسير مع القطار! وازداد تعجب الزوجين من تصرفات الشاب وبدأت الأمطار وتلامست قطراتها مع يد الشاب الذي صرخ من سعادته: أبي، اُنظر المطر وهو علي يدي وهنا لم يستطِع الزوجان السكوت وسألوا العجوز: لِمَ لا تذهب إلي الطبيب لعلاج ابنك فقال العجوز: إننا جئنا توًّا من المستشفي، فإن ابني قد آتاه بصره أول مرة في حياته اليوم وهنا صمت الزوجان اللذان أدركا أنهما حكما علي الأمر دون أن يُدركا كل الحقائق ومن غير حكمة، ما قد يسبب جُرحًا للأب وابنه. أيضًا الإنسان الحكيم لا يحكم علي من حوله بالمظاهر، فهو بما له من عمق الحكمة يعرف ويُدرك ويستطيع أن يحكم حكمًا غير متسرع عليهم. كما يُدرك جيدًا ما هو غني الإنسان الحقيقي النابع من غني المبادئ والأخلاق والمحبة. ولذلك “كلمات فم الحكيم نعمة” ـ وليس كلماته فقط وإنما مشاعره وتقديره ـ لكل إنسان مهما صغُر أو كبِر. دخل الطفل إلي المطعم المزدحم وجلس، ثم سأل احدي العاملات بالمطعم: هل يوجد آيس كريم بالشيكولاتة؟ فأجابته: نعم. فسألها: ما سعره؟ فأجابته: خمسة جنيهات. صمت الطفل قليلاً، ثم سأل: ما ثمن الآيس كريم من دون الشيكولاته؟ فأجابته بصبر نافد: أربعة جنيهات! فطلب إليها أن تحضر له كوبًا من آيس كريم الحليب فقط. وأحضرت الفتاة له الطلب، وكان الطفل يأكل باستمتاع. ازدحم المكان ووقف البعض في انتظار الطفل، وكانت الفتاة يملؤها الغيظ من الطفل لاعتزازه بنفسه مع أن ملابسه بسيطة، ولإبطائه في الأكل غير مبالٍ بانتظار الآخرين في أن ينتهي من الآيس كريم. وأخيرًا قام الطفل وطلب الفتاة ثم ترك الحساب علي الطاوِلة، فسارعت هي بتنظيف المكان وأخذ الحساب. وهنا شعَرت الفتاة كم تسرعت وحكمت علي الطفل خطأ، فقد ترك خمسة جنيهات بدلًا من أربعة! لقد حرم نفسه من الآيس كريم بالشيكولاتة لكي يترك لها جنيهًا بقشيشًا.. وصُدمت الفتاة في افتقارها حكمة أن تُدرك القيمة الحقيقية لهذا الطفل البسيط. والإنسان الحكيم لا يندفع في أحكامه وتصرفاته، أمّا الجاهل فيحكم وينفذ حكمه بتكبر قلب دون تفكير، فيقول الحكيم: “الجاهل يُظهِر كل غيظه، والحكيم يُسَكِّنه أخيرًا.”. ولم يكُن أعز أصدقاء چنكيز خان القائد المغولي الطاغية إنسانًا ولكنه كان صقرًا وكان هذا الصقر يلازمه إلي كل مكان علي ذراعه، وقد كان خير معين لچنكيز خان فهو الذي يرافقه في رحلات صيده ويَهديه إلي الفريسة، وكان مثالاً لأوفي الأصدقاء بالرغم من صمته وفي يوم من الأيام، خرج چنكيز مصطحبًا صديقه الصقر فقط، فوصل إلي منطقة خلاء بعد مسيرة طويلة حتي عطِش. فوجد ينبوع ماء أسفل الجبل، فانحني چنكيز وملأ كوبه، ولكنه حين ما أراد شرب الماء إذ بالصقر ينقض علي الكوب ويسكبه فملأ الكوب مرة ثانية، وبمجرد أن قرَّب الكوب من فمه فإذا الصقر يكرر فعلته ويضرب الكوب بجَناحه فيطير الكوب وينسكب الماء تكرر الأمر مرة ثانية حتي غضب چنكيز وأخرج سيفه، وحين ما اقترب الصقر ليسكب الماء ضربه ضربة واحدة فقطع رأسه! وقف چنكيز للحظة، ونظر إلي الينبوع فرأي بركة كبيرة وحولها صخور يخرج منها هذا النبع، وشاهد حية كبيرة ميتة وقد ملأت البركة بالسم وأدرك أخيرا كيف أن صاحبه كان يحفظ له حياته، ولكن هيهات فالوقت كان قد فات وأخذ چنكيز صديقه الصقر الميت وأمر بصنع تمثال من ذهب علي شكل صقر تكريمًا لصديقه الوفيّ. كما طلب نقش عبارتين علي جَناحيه الأولي: “صديقك هو صديقك، ولو فعل ما لا يرضيك.”، والثانية: “كل عمل سببه الغضب، حتمًا عاقبته الفشل والندم.”. ومازال يتردد السؤال الذي سأله إرميا النبي: “من هو الإنسان الحكيم الذي يفهم هذه..؟”. وللحديث بقية.