تحدثنا في المقالة السابقة عن تفاعل الحكيم والمواقف والأحداث التي تمر به بحكمة؛ وذلك لإدراكه طبيعتها، ومن ثَم يتخذ المواقف أو القرارات التي ينبغي له القيام بها في الوقت المناسب. وأيضًا كيف أن الحكيم يُدرك المشكلات والمصاعب التي تعترض طريق حياة الإنسان، ولكنه يؤمن بأن علي أنهار اليأس ينبغي للإنسان بناء جسور الأمل.
وفي ظل مواقف الحياة اليومية ومشكلاتها التي نحياها، يقف الحكيم علي نوعية المشكلة ويُدرك عمقها حتي يصل إلي أفضل الحلول لها. وهنا أتذكر القول المأثور: »كثيرًا ما نري الأشياء علي غير حقيقتها لأننا نكتفي بقراءة العنوان«؛ فالكثير من الناس لا يستطيعون حل ما يلاقوه من مشكلات لأنهم يكتفون بقراءة عنوان المشكلة، ولا يتخذون من الحكيم ـ الذي يحاول التفهم والتعمق ليصل إلي حقيقة أبعادها ـ ومن ثم اجتيازها ـ أنموذجًا يُحتذي به. تقول إحدي القصص إن أحد الملوك ـ وكان يحكم مملكة واسعة جدًا ـ أراد يومًا أن يقوم برحلة برية ليتفقد أحوال المملكة والشعب. وبعد الانتهاء من رحلته، وجد أن أقدامه قد تورمت بسبب المشي في الطرق الصعبة، فأصدر أمرًا بتغطية كل شوارع مدينته بالجِلد. ولكنّ أحد مستشاريه الحكماء أشار عليه بعمل فقط قطعة جلد صغيرة تحت قدمَيه لحمايتهما، وكانت هذه بداية عمل نعل الأحذية. لقد أدرك الحكيم المشكلة وقدَّم الحل المناسب والعملي.
وعمق الحكيم في تناوله الأمور يهبه القدرة علي استخلاص الأسباب الحقيقية للمشكلات التي يتعرض لها الآخرون فيساعدهم علي حلها؛ حتي إن بدا أنه لا حل علي الإطلاق.
تقول إحدي القصص إن سـيدة صينية عاشت مع ابنها الوحيد في سعادة ورضا إلي أن مات الابن فجأة، مما أدمي قلب هذه السيدة جدًا حزنًا علي فقدانها وحيدها. ذهبت السيدة إلي حكيم القرية وطلبت منه أن يصف لها طريقة (وصفة) تستعيد بها ابنها إلي الحياة، وستنفذ ما فيها مهما كانت صعوبتها! شرَد الشيخ الحكيم بفكره عنها بعض الوقت، ثم قال: حتي أعطيكِ إياها، عليكِ أن تحضري لي حبة خردل واحدة من بيت لم يعرف الحزن مطلقًا!
بدأت السيدة تقرع أبواب بيوت القرية بيتًا بيتًا باحثة عن بيت لم يعرف الحزن له طريقًا علي الإطلاق، لتطلب من أهله حبة الخردل. توقفت المرأة عند أول منزل صادفها، ففتحت لها امرأة شابة، فسألتها السيدة: هل دخل الحزن هذا البيت؟ أجابت المرأة: إن بيتي لم يعرف إلا الحزن! فقد مات زوجي، وترك لي أربعة أطفال، ولا يوجد مصدر لإعالتهم سوي بيع ما أملك، والذي لم يتبقَّ منه إلا القليل. تأثرت السيدة جدًا، وأخذت تحاول أن تخفف عنها أحزانها. وفي نهاية الزيارة صارتا صديقتين.
ثم انتقلت لتدق باب البيت الثاني آملة أن تجده بيتًا لم يعرف الحزن، فعلمت من سيدة الدار أن زوجها مريض جدًا، وليس لديها طعام لأطفالها. فرقَّت السيدة لحال الأسرة وقررت أن تساعدهم. ذهبت إلي السوق واشترت طعامًا من كل نوع: لحمًا، خضراوات، بقولاً، دقيقًا، زيتًا، فاكهة، ثم رجعت إلي سيدة الدار وساعدتها في تجهيز الطعام للأطفال. بعد إطعام الأطفال ودَّعتهم علي أمل زيارتهم في مساء اليوم التالي. وفي الصباح بدأت السيدة تطوف من بيت إلي بيت بحثًا عن حبة الخردل، إلا أنها لم تجد بيتًا واحدًا لم يعرف الحزن مطلقا لكي تأخذها من أهله. لقد كانت السيدة طيبة القلب، وقد حاولت المساعدة وإدخال الفرح علي كل بيت تزوره. وبمرور الأيام أصبحت هذه السيدة صديقة لكل بيت في القرية، ونسيت حبة الخردل، وذابت في مشكلات الآخرين ومشاعرهم.
إن حكيم القرية منح السيدة أفضل وصفة للقضاء علي الحزن، فمع أنها لم تجد حبة الخردل إلا أنها عثرت بالحقيقة علي الوصفة المُثلي للخروج من حزنها وألمها. فبدل أن تستعيد ابنها أصبح أبناء أهل قريتها أبناءها، بل حظِيت بالأب والأم والأخ والأخت؛ مع دخولها أول بيت في القرية.
والحكيم يُدرك أن المشكلات لا تُحل لا بالشدة ولا بالقسوة ولا بالعنف بل بكسب محبة كل من يلتقيه؛ مُدركًا أن “رابح النفوس حكيم”. إنه يهتم بالكل ويساعد الجميع حتي إن كان علي خلاف معهم…. وللحديث بقية .