تحدثنا فى المقالة السابقة عن اعتقاد البعض بإمكانية أن يرى الأخرين ويقيّم شخصياتهم وأعمالهم، ومن ثَم يجعل نفسه قاضيًا أو ناصحًا لهم، وهو قد لا يتمكن من رؤية ذاته هو على نحو صحيح ! وذكرنا أنه على الإنسان، قبل أن يُطلق أحكامه، أن يُدرِك قانون العَلاقات الإنسانية الذى هو المحبة والرحمة، وأن ما يراه أو يعرِفه ليس انعكاس الحقيقة الكاملة، وأن معرفة أهداف الشخص وإمكاناته تساعد فى فَهم كثير من الأمور والمواقف والتصرفات، واليوم، نتحدث عن حياة كل إنسان وإدراكها بصدق.
إذا أردتَ أن ترى حياتك بصدق وواقعية، فحاول : فى غمرة انشغالك بالحياة ومتطلباتها وصراعاتها وهى تمضى بك بسرعة جُنونية، حيث اللحظات تتقارب لتكمِّل ساعات تتلاحم فى أيام متسارعة لتصنع سنواتك تمر بك فى طريق الحياة، أن لا تدع حياتك تُسرق منك وتمضى دون أن تجلس إلى ذاتك لترى وتفهم وتقيِّم خطواتك وأفعالك، ومن ثَم يمكنك أن تغيّر وِجهتك متى أدركتَ أنها تسير فى الاتجاه الخاطئ أو انحرفتْ قليلًا عن المسير، وربما ساعات قلائل تقضيها مع ذاتك ترفع عنك عناء سنوات طوال من المسير الخاطئ! عندما تجلس إلى ذاتك، أن تكون عادلًا ومنصفًا فى حكمك على كل ما هو حق وخطأ، يقولون: إنه من الصعوبة أن يرى الإنسان نفسه وهو شريك فى الأحداث ومتأثر بها؛ هٰذا حق، ولٰكن حاول أن تحكم من خارج الإطار أى وكأنك ترى الأحداث من خارج تأثيرها.. جرِّب أن تقص على نفسك المواقف والعبارات وكأنك تسمعها من آخَر، وسَلْ نفسك: ماذا سيكون حكمى؟ وإن لم تستطِع، فاطلب آراء الأمناء الذين تثق بمحبتهم الحقيقية لك، فحتمًا سيساعدونك على رؤية الأمور جيدًا.
حين تصل إلى رؤية وإدراك سليمين، لا تبحث عن مبررات لأفعالك ومواقفك؛ فهى إن كانت ستارًا لك اليوم فحتمًا سوف تسقط غدًا، وإن كانت المبررات ستكسبك تعاطف الآخرين، إلا أنها ستضللك عن طريق الحياة الصحيح، إذ بمرور الأيام ستصدقها أنت أيضًا وتخدع ذاتك، وتذكر أن الله، تبارك اسمه ـ هو من سيحكم على الجميع فى نهاية الرحلة، وهو جل شأنه ـ غير القابل للخداع بتبريرات: إنه فاحص القُلوب ومن يُدرِك النيات .
سمعتُ من أحد الأشخاص يقول: “يسألوننى عن سر قوتى فى طريق الحياة، ولا يُدركون أنها بسبب تلك المبادئ التى اتخذتُها فى الحياة التى تهبنى احترامى لذاتى؛ فقد علمتنى مبادئى أننى حينما أُخطئ يجب أن أكون صادقًا مع نفسى، وأتخذ الأمور اللازمة لتصحيح الموقف ” إن سر قوة الإنسان يكمن حقيقة فى وُجود مبادئ فى حياته، مع قدرته على الوُضوح والصدق فى مواقفه، الأمر الذى يتحول إلى احترام عميق يثبِّت خَطوات الإنسان فى الطريق ويمنحه قوة واحترامًا لدى من يعاملونه .
من الجائز أن تجد كثيرًا من الأمور التى لا ترغبها فى حياتك، حسنًا لا تدَعها تسبب لك اليأس، بل اقبل واقعك لتنطلق به نحو الأفضل، فإنه مِن دون ذٰلك الفهم والقَبول لن تستطيع أن تنمو وتنطلق إلى التغيير الذى ترغبه . ليست المشكلة فى وُجود أخطاء فى حياة البشر، إنما المأساة أنهم لا يُدركونها أو يجَمِّلونها وبهٰذا يسيرون فى طريق لا يصل بهم إلا إلى الدمار .
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى