يقولون: “ويل لنا من زمن يفقد الإنسان فيه إنسانيته!”. إن من أروع الأمور وأرقها التي تمر بالشخص في حياته أن لا يفقد ما وهبه الله له من إنسانية تحمل الفكر والمشاعر الراقية. فإن كنا نحيا بين البشر، فعلينا أن نقدر الآخرين. ففقدان الإنسانية لا يعنى إلا تحوّل الحياة إلى غابة بلا قانون. الإنسانية تحترم الآخرين إن احترام الإنسان للآخرين هو مبدأ إنسانيّ يُزرع في الأعماق، وتتعدد وسائل التعبير عنه؛ فحين تستمع باهتمام إلى ما يقوله الآخرون من حولك فأنت تحترمهم، وحين لا تُسَفِّه من رأي محدثك وتقدِّره، محاولـًا أن تتفهم أسبابه ورؤيته للأمور، فهٰذا أيضـًا نوع من الاحترام، وحين لا تَطغَى على حرية الآخر من أجل حريتك أنت، فأنت تحترمه. ومتى سقط الاحترام بين البشر، لا تنجح أيّ تعاملات بينهم؛ فنحن حين نحب أو نصادق أو نتعامل نحن وأقرب الناس إلينا نحتاج إلى الاحترام. وحين يسقط الاحترام، يسقط الإنسان فتهتز الإنسانية؛ فالاحترام هو أجمل ذكرى للإنسان في قلوب الآخرين وإن بَعُد عنهم. وهو أيضـًا أن تحترم كل إنسان دون النظر إلى لونه أو جنسه أو معتقده، بل ترى فيه إنسانيته. يقولون: “ليس من المهم أن يختلف الناس وإياك في الآراء، ولٰكن لا تجعلهم يختلفون على شيء واحد: هو احترامك.”. وأود أن أقول هنا: ليس من المهم أن تختلف أنت والناس في الآراء، ولٰكن لا تتوقف للحظة عن احترامهم. الإنسانية تراعي مشاعر الآخرين كثيرًا ما يجول في ذاكرتي كلمات المتنيح قداسة “البابا شنوده الثالث”: “إن لم تستطِع أن تحمل عن الناس متاعبهم، فعلى الأقل لا تكُن سببـًا في إتعابهم.”. ما أعظم النفوس التي تحمل عن الناس أتعابها! وما أرق النفوس وما أنبلها تلك التي تشارك الآخرين آلامهم ولا تَُحزُِنهم! وحين يعيش الإنسان بتلك المشاعر الرائعة التي خلقها الله في أعماقه، فهو لا محالة يكون بارعـًا في مراعاة مشاعر كل من يلتقيه في حياته، وفي الوقت نفسه، لا يستطيع أن يَجرَح جارحيه. وقد عايشت مثلث الرحمات قداسة “البابا شنوده الثالث”؛ فكان يحتمل في قلبه كثيرًا لئلا يسبب حرجـًا أو جُرحـًا لأحد. وأذكر أنه قال لي من كلمات الأديب الكبير “نجيب محفوظ”: “لا أجيد رد الكلمة الجارحة بمثلها؛ فأنا لا أجيد السباحة في الوحل!” نعم، من سلك طريق الإنسانية لا يستطيع إلا أن يعتبر الآخر إنسانـًا مثله يشعر بآلام ويسعد بأفراح؛ لذا، تجده لا يقوى على إيلام الآخرين ويُسرع إلى إبهاج قلوبهم. الإنسانية تشجع الضعفاء والإنسان الذي يملِك قدرًا عاليـًا من الإنسانية، يُدرك أنه بشر، وأنه ليس كاملـًا. وإن كان يمر به أزمنة قوة في مرحلة ما، فحتمـًا ستعبر به أوقات ضعف في وقت آخر ما يجعله محتاجًا فيه إلى المساندة والتعضيد. ومن هٰذا المنطلق، تجده يساند كل من يعبر به في طريق الحياة ويساعده؛ فيشعر براحة وسعادة لكونه قد أدى دورًا عظيمـًا أمام الله. ما أقوى اليد التي تُنهض الآخرين عند تعثرهم! وما أضعف تلك التي تدفع بالآخرين لتفسح لذاتها طريقـًا!! ومن يُدرِك عمق إنسانيته وروعتها، تجده أيضـًا يهتم بهؤلاء الذين ليس لهم أحد يذكرهم: مَن خط الشيب شعره ويحتاج إلى من يسأل عنه، أو من فقد عائله، أو من يبحث عن النصح. إن من يعيش الإنسانية بأعماقها لا يملِك إلا قوة المحبة للجميع؛ إنه يساند الضعفاء متعلمـًا من الله ـ كلّيّ الرحمة والمحبة ـ الذي يقوِّي ويساند كل ضعيف. فالإنسانية الحقيقية هي قوة بناء في العالم.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ