نحتفل غدًا بـ»عيد القيامة» المجيدة. وتؤمن الأديان بحقيقة «القيامة»، وحُدوثها بعد عُبور الإنسان جسر الموت إلي حياة أبدية لا تنتهي يتحدد فيها مصيره النهائيّ من الله ـ تبارك اسمه ـ الذي يجازي كل واحد كحسب عمله؛ ولن يكون ذٰلك المصير إلا نتاج حياته علي الأرض. إن الله قد أعطي الجميع هبة الحياة: يوجد من استثمرها لمصلحة أبديَّته فملأها بالخير والمحبة والأمانة والصلاح، ومن تسللت حياته من بين يديه في ظل أيام لاهية عابثة لم يعمل فيها بحكمة لأجل أبديَّته.
وحين يختفي مفهوم «القيامة» من حياة الإنسان، لا يعني ذٰلك إلا اختفاءً للمبادئ والقيم التي يحياها وتنادي بها الإنسانية؛ فـ»القيامة» ترتبط بدرجة كبيرة بكثير من المبادئ المهمة التي سأتحدث اليوم عن أحدها، والتي يسعي العالم لتحقيقها: إنه مبدأ «العدل».
في «القيامة»، يفرح هٰؤلاء الذين تعِبوا في الحياة وقدَّموا فيها المحبة والخير للجميع، ولم يتوانَوا عن مساعدة من التجأوا إليهم: فعضدوا الضعفاء، وشجعوا اليائسين، وعلَّموا وأرشدوا بإخلاص وأمانة قلب. وفي سبيل تلك الحياة، ربما نسُوا ذواتهم، أواكتفوا بقدر قليل من التمتع لأجل رسالة عظيمة آمنوا بها فجاءت حياتهم لأجل الآخرين، وفي المقابل جاءت حياتهم بعد الموت لأجل سعادتهم ونَيل جزاء أتعابهم أمام البشرية بأسرها! ويذكرني هٰذا المعني بمن يجتهد في دراسته ويتعب كثيرًا، وتمر به مراحل من العمل والجُهد والتعب كثيرة كي يحقق النجاح، ثم ينتظر بشوق يوم إعلان نتيجة ما قدمه من سهر وعمل بأمانة ليسعد فيه. أمّا أولٰئك الذين اهتموا براحتهم وتخاذلوا عن أداء أماناتهم، فإنهم يرتعبون من ذٰلك اليوم الذي تُعلن فيه أعمالهم.
أيضًا يتحقق «العدل» في «القيامة» لهٰؤلاء الذين عاشوا حياتهم محتملين آلام التجارِب في شكر وعدم تذمر: فكثيرون امتلأت حياتهم بتجارِب قاسية مثل المرض أوالإعاقة كفقدان البصر أوالسمع وغيرها، فلم يرفضوا الحياة بل احتملوها بمساعدة هٰؤلاء الذين يقدمون خيرًا، بل تفوقوا في كثير من الأحيان علي الأصحاء! وفي «القيامة» سوف يقومون بأجساد صحيحة لا تعرِف المرض أوالإعاقة، وينالون جزاء صبرهم وعملهم في الحياة.
ومن هٰؤلاء الذين سوف يفرحون في «القيامة» كل نفس ظُلمت في الحياة من دون ذنب اقترفته: فقد يكون الأذي نالها من أناس أشرار بسبب حقد أوحسد، فتحمل لهم «القيامة» عدل الله الذي يرفع عنهم كل ظلم. إن الله في ذٰلك اليوم لَيُعلِن حكمه علي جميع البشر، ويرد الحق إلي كل نفس نالت من الظلم نصيبًا علي الأرض، كثيرًا أوقليلًا، حين يحاسب كل إنسان علي أعماله خيرًا كانت أوشرًّا. وقد يرد إلي المظلوم بعضًا من حقه في الحياة الأرضية، لٰكن في «القيامة» سوف يتحقق عدل الله ـ جل حكمه ـ بطريقة كاملة وأمام الجميع.
نعم، إن في «القيامة» سوف تفرح أنفس: الأبرار والقديسين، والشهداء الذين نالوا آلامًا في الحياة وقدَّموا حياتهم في إيمان لا يهتز، وأولٰئك المحتملين بصبر واثق في وُجود الله وعمله وحكمته ومحبته وعدله؛ سوف يفرحون جميعهم لأنهم يذوقون العدل من فم الله الديان العادل الذي لا يقبل ظلمًا البتة، وفي نصرة للحق يُعلِن عدله أمام البشرية جمعاء!! وهٰكذا تكون رسالة القيامة إلينا: رسالة أمل ورجاء وتعزية في الحياة، فما نقدمه من أتعاب لن يضيع وما نحتمله بشكر لن يُفقد، ورسالةً تشدِّد من أزر كل إنسان للعمل بأمانة دون انتظار تكريم بشر، ورسالة إنذار لكل من يمضي في حياته دون أن يدري أن هناك نهاية في الطريق.
كل عام وجميعكم بخير.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ