يحتفل المَسيحيُّون اليوم فى عديد من بلاد العالم بعيد «الشَّعانين» أو «أحد السَّعَف»،
و«السَّعَف» فى اللغة العربية هى «أغصان النخيل». ويُعد هذا اليوم عيداً كبيراً يرتبط بالسيد المسيح.
وكلمة «شَعانين» مشتقة من الكلمة الآرامية «هُوْشَعْنا» أى «خلِّصنا»، وفى اليونانية «أُوصَنّا». وتتكون كلمة «هُوْشَعْنا» من مقطعين: «هُوْشَعا» يعنى «خلِّص أو أَنقِذ»، و«نا» وهو لفظ يدل على شدة الاحتياج، ليُصبح المعنى: «خلِّص الآن».
وقد ذكرها داود النبى: «آهِ يا رب خلِّص! (أوصَنّا)، آهِ يا رب أنقِذ! (أوصَنّا)».
ثم استُخدمت فيما بعد للتحية والهُتاف، وتعنى «المجد». وأحد «الشَّعانين» هو الأحد السابع من الصَّوم الكبير، ويليه «عيد القيامة » فى الأحد التالى. أمّا الأسبوع الذى يقع بين العيدين فيُسمى «أسبوع الآلام».
أحداث العيد
هذا اليوم هو تذكار دخول «السيد المسيح» إلى أورُشليم راكباً على جحش، وقد استقبلته الجماهير بسَعَف النخل، وأغصان الزيتون والهُتاف: «وأتَيا به إلى يسوع، وطرَحا ثيابهما على الجحش، وأَركبا يسوع. وفيما هو سائر فرشوا ثيابهم فى الطريق.
ولما قرُب عند منحدر جبل الزيتون، ابتدا كل جمهور التلاميذ يفرحون ويسبِّحون الله بصوت عظيم، لأجل جميع القوات التى نظروا، قائلين: (مباركٌ الملكُ الآتى باسم الرب! سلام فى السماء ومجد فى الأعالى!). وأمّا بعض الفَرِّيسيِّين من الجمع فقالوا له: (يا معلِّم، انتهر تلاميذك!). فأجاب وقال لهم: (أقول لكم: إنه إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ!)».
وهذه الأحداث تُعد إتماماً لنبوءة زكريا النبى فى العهد القديم: «ابتهجى جداً يا ابنة صهيون.
اهتِفى يا بنت أورُشليم. هوَ ذا مَلِككِ يأتى إليكِ. هو عادل ومنصور وديع، وراكب على حِمار وعلى
جحش ابن أتان».
احتفالات العيد
ذكر عديد من المصادر أن العرب كانوا يحتفلون بهذا اليوم ويُطلقون عليه «يوم السَّباسِب»، مثلما أنشد النابغة الذُّبيانى: رِقاقُ النِّعالِ طَيِّبٌ حُجُزاتُهم يُحَيَّونَ بِالرَّيْحانِ يَومَ السَّباسِبِ وذكر أيضاً بعض المؤرخين أن يوم «السَّباسِب» هو يوم عيد للمَسيحيِّين يُسمى عيد «الشَّعانين»، والسَّباسِب جمع سَبسَب: وهو شجر يُتخذ منه السهام.
والاحتفال فى أنحاء العالم بهذا العيد يشترك فى حمل المَسيحيِّين لسعَف النخل احتفالاً بذكرى ذاك اليوم. كذلك فإن بعض الدول تقوم بإحياء ذكرى ذاك الحدث من خلال قيام أحد الأشخاص بتمثيل دَور «السيد المسيح» راكباً على جحش.
ويحرص المَسيحيُّون أيضاً فى هذا الاحتفال على صنع أشكال متنوعة وجميلة من سعَف النخيل. أمّا فى روسيا، فيستخدمون أغصان شجر الصَّفصاف بدلاً من أشجار الزيتون أو النخيل غير الموجودة بالبلاد.
وفى القدس حيث المكان الذى شهِد الأحداث، انطلق موكب الشَّعانين أول مرة فى أورُشليم، ومنها امتد إلى كنائس الشرق، فى مسيرة احتفالية تبدأ من جبل الزيتون يحمل الشعب فيها صغاراً وكباراً سعَف النخل وأغصان الزيتون ويهتِفون: «أُوصَنّا! مباركٌ الآتى باسم الرب!»، ويجولون فى شوارع المدينة حتى يَصلون إلى كنيسة القيامة حيث يُقيمون الصلوات.
وفى مِصر، يأخذ الاحتفال طابعاً مِصرياً عريقاً إذ تزدان شوارع القاهرة بسعَف النخيل التى يحملها المَسيحيُّون فى أثناء ذهابهم إلى الكنائس احتفالاً بالعيد. وتقام الصلوات فى كنائس مِصر من مساء السبت، ثم صباح الأحد، ليبدأ بعد انتهائها الاستعداد لأسبوع الآلام. ويذكر المقريزى عن احتفالات العيد فى مِصر: «عيد الشَّعانين هو عيد الزيتونة ومعنى (الشَّعانين) هو التسبيح، ويكون فى سابع أحد من صَومهم. وسُنتهم فيه أن يُخرجوا سعَف النخل من الكنيسة، ويرَون أنه يوم ركوب المسيحِ العَنُونَ (العَنُون: الدابَّة المتقدمة فى السَّير، والمراد الأتان أو الجحش وهو يسرع بالمسيح فوقه) فى القدس، ودخوله إلى صهيون وهو راكب والناس بين يديه يسبِّحون وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وكان هذا العيد من المواسم التى تزيَّن فيها كنائس النصارى بمِصر».
وفى هذا اليوم الذى نحتفل فيه بدخول السيد المسيح أورُشليم، أود أن أتحدث عن شخصيات هذا الحدث العظيم:
السيد المسيح الملك الوديع، والجموع المحتفلة بالملك، ثم دروس من أشجار النخيل.
السيد المسيح الملك الوديع
عندما دخل «السيد المسيح» إلى أورُشليم مع تلاميذه، دخل راكباً على ظهر جحش ابن أتان. ففى دخوله المدينة كان يحمل المحبة والوداعة دون عنف ولا حَرس من حوله ولا مراسم استقبال، فدخل متواضعاً يحمل رسالة السلام إلى العالم كله.
وكان ذلك على النقيض من سلوك العظماء والحكام فى تلك الأيام، الذين يدخلون المدن بكبرياء على
الخيول أو عربات تجرها الخيول. فقدم السيد المسيح سلوكاً مناقضاً للعالم؛ إذ يوجه الأنظار إلى قبول الله للنفس الوديعة المتواضعة التى لا تبحث عن ذاتها بل العمل من أجل الآخرين. يوضح هذا «يوحنا الذهبى الفم»: «لا يقود مركَبات كبقية الملوك، ولا يطلب جزية، ولا يطرد أناساً، ولا يطلب حراساً، إنما يسلك بوداعته العظيمة».
الجموع
استقبل الشعب السيد المسيح فارشين ثيابهم أمامه على الطريق، حاملين أغصان الأشجار والنخيل التى ترمز إلى النصر، أى أنهم استقبلوا السيد المسيح كمنتصر فى الحرب. إلا أننا يجب أن نعِى أن الجموع التى تبِعت السيد المسيح واستقبلته كان يحمل كل فرد فيها غرضاً داخله، فمنهم من آمن به، ومنهم من كان يحتاجه فى معجزات أو سد حاجاته المادية، ومنهم من اعتقد أنه ملك أرضى أتى ليخلصهم من الحكم الرومانى القاسى، ومع اختلاف الأهداف اختلفت النهايات.
وقد قامت الجموع بفرش الثياب فى الطريق أمام المسيح، وقد استُخدم هذا التقليد قديماً فى إشارة إلى إعلان المحبة والطاعة والولاء.
وقد حدث هذا المشهد قبلاً مع «ياهو»، أحد رجال العهد القديم عندما نصّب نفسه ملكاً، ففرش الجموع ثيابهم وأغصان الشجر وسعَف النخل أمامه. وأيضاً فى استقبال سمعان المَكابى عند دخوله إلى أورُشليم بعد انتصاراته على الحاكم أنتيخوس أبيفانوس الذى أهان الهيكل ونجَّسه فى عام 175 ق. م.
دروس من سعَف النخل
يقول أحد الآباء: «ليتنا نفرش أيضاً طريق حياتنا بالأغصان التى نقطُِفها من الأشجار، أى نتمثل بالقديسين الذين هم أشجار مقدسة. من يمتثل بهم فى فضائلهم يكون كمن قطع أغصاناً لنفسه».
وأشجار النخيل التى يُستخدم سعَفها فى العيد تقدِّم إلينا دروساً عديدة فى الحياة:
فالسعَف هو قلب النخل ولونه أبيض إشارة إلى القلب النقى الذى يجب أن يقدَّم إلى الله، والله يهتم بقلب الإنسان فيقول: «يا ابنى أعطنِى قلبك».
أيضاً هذا السعَف ليِّن ويمكن تشكيله، إشارة إلى حياة التسليم لله لكى يشكلها وَفق إرادته.
والنخلة فى حالة نمو دائم، وهذا النمو له بُعدان: بُعد منظور: وهو نموها وامتدادها إلى أعلى نحو السماء. وبُعد غير منظور: وهو تعمق جذور النخلة فى الأرض بقوة راسخة مما يهبها إمكانية تحمل ذلك الارتفاع، وأيضاً الثبات أمام الرياح العاتية.
إن كل نمو فى حياة الإنسان يحتاج إلى عمق لئلا يسقط فى الكبرياء والهلاك، أو يهتز أمام
رياح وأمواج العالم.
وكذلك نجد أن النخل يمكن زراعته فى المناطق الصحراوية ويبقى حياً مع أن زماناً طويلاً مَر دون ريه، فللنخل قوة على تحمل الحر والعطش، فهى أشجار تحتمل، وفى الوقت نفسه تحمل ثماراً شهية طيبة للجميع تقدمها حين تُقذف بالأحجار لضاربيها.
وبالإضافة إلى الثمار، تقدِّم النخلة كثيراً من الفوائد إلى البشر، فتُصنع من سعَفها السلال، ومن أليافها الحبال، ويستخدمون جريدها وجُذوعها كسُقوف لبعض المنازل الريفية.
وأخيراً النخلة أم ولود، تُنتج نُخَيلات أو نخلات صغيرات تسمى فسائل، يمكن أن تُنزع وتُنقل وتُغرس فى أماكن أخرى وتنمو.
مِصر والأعياد
لقد عودتنا مِصر على مر التاريخ أن شعبها يحيا معاً حاملاً رسالة الحب والسلام للجميع، فأفراده دائماً متشاركون فى أفراحها وأحزانها، يحملون همومها ونجاحاتها، يتشاركون الطريق والمصير. وفى الأعياد التى تعبر بنا، يفرح الجميع ويتشارك، فهم أبناء النيل الواحد وأرض الخير والبركات جنة الله «مِصر». وفى هذا أختِم بكلمات المَقريزى فى كتابه «الخِطط» (ج1): «أمّا فى أحد الشَّعانين (السَّعَف)، كان القبط يخرجون من الكنائس حاملين الشموع والمجامر والصُّلبان خلف كهنتهم، ويسير معهم المسلمون أيضاً. ويطوفون الشوارع وهم يرتلون، وكانوا يفعلون هذا أيضاً فى خميس العهد. وكان الفاطميون يضرِبون (يسِكُّون عملة ذهبية) خَمسمائة دينار على شكل خراريب ويوزعونها على الناس.
وكان يباع فى أسواق القاهرة من البيض المصبوغ ألواناً ما يتجاوز حد الكِثرة، فيقامر به العبيد والصِّبيان والغوغاء. وكان القبط يتبادلون الهدايا من البَيض الملوَّن والعدس المصفَّى وأنواع السمك المختلفة، وكذلك يقدمون منها لإخوتهم المسلمين».
وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى