التاريخ مرآة الأمم. وأهم عامل فى الأمة هو الإنسان، إذ بوُجوده وظُروفه يعمل عملاً كبيراً فى تكوين الأمة وتطورها، ولذا، وجب على كل من يبحث فى التاريخ، خصوصاً تاريخ البشر، أن يُلم بظروف الشخص وأحواله ومقدار فَهمه للأمور. ولما كان بطلنا نابغة القرن الرابع، وأقوى عامل فى تثبيت الكنيسة فى العالَمين الشرقى والغربى، يحق لى أن أكتُب الآن أننا فى حياته وشخصه ندرس تاريخ الكنيسة العامة.
رجل تجلت البطولة فى تاريخه المجيد، وتألق نور الشخصية الممتازة فى حياته الفريدة. رجل إن عدّدنا بقية الأبطال نُجوماً لامعة، عدَدناه شمساً منيرة وهّاجة.
رجل رفع علم الجهاد عالياً وعالياً جداً على الرغم من القوة الغاشمة، غير حاسب للتضحية حساباً. رجل قامت المسكونة كلها عليه، وقام هو بمفرده عليها! ومكث النزاع بين الطرفين نصف قرن كامل، لكن لم يكُن أحد يعلم أى الطرفين يفوز فيه: أهو الطرف الذى يملِك القوة والجبروت، أم الطرف الذى ليس له سوى صديقين أمينين، الله والقبر؟ فالأول سيُبرّؤه، والثانى سينجيه.
كان نزاعاً بين قوتين غير متكافئتين: العالم ومُلوكه وقواده وجُنوده من جهة، وبطلنا المِصرى بيقينه وقوة إيمانه وصبره على المكاره من الجهة الأخرى. كان العالم يرقُب نهاية النزاع بحَيرة واضطراب، ولم يكُن يدور فى خَلَد أحد أن شخصاً، مهما أوتى من قوة، سوف ينتصر بمفرده. فما أجلّه جهاداً! وما أمجدها حرباً! وما أبهاه نضالاً وقف أمامه العظماء والملوك والجبابرة والمؤرخون حُيارى!
رجل يلذ لكل مؤرخ أن يسرد تاريخه، ولكل قارئ أن يقرأه. وإن جمعنا ما كتبه المؤرخون عنه، لزاد عما كُتب عن أى رجل فى العالم!! رأى ذلك البطل المِصرى أنه قد عمَّت ضلالة عن لاهوت السيد المسيح فى الكنيسة، وتدخلت القوات الحاكمة آنذاك بنُفوذها لتعميمها، فأخذ يقاومها بما أوتى من صدق النظر وحِذْق القول وقوة البرهان، غير خائف ولا مهتز لأنه كان فى جانب الحق.
ولا عجب حين قالوا له: «العالم ضدك يا أثناسيوس»، فأجاب: «وأنا ضد العالم»، فأُطلق حينئذ عليه «أثناسيوس كونترا موندوم» أى «أثناسيوس ضد العالم»! مقدِّماً بذلك مثالاً للرجل الثابت على رأيه رغم إجماع كثيرين على معارضته. إنه مثال على أحقية الفرد فى أن يُبدى رأيه ولو كان ضد المجموع، وأن يصح حكمه على حكمهم. إن انتصار الكنيسة فى ذلك العصر ومجدها فى كل الأجيال يُنسبان إلى ذلك البطل المِصرى المغوار «أثناسيوس» الذى نحتفل اليوم بذكرى نياحته، فعلى مر الدهور، يقف المؤرخون على منابر التاريخ، يطالعون تلك الصفحة البيضاء تخليداً لتلك الذكرى العطرة من السلف، وزَخراً وتبكيتاً للضعفاء من الخلف.
«البابا أثناسيوس الرسولى» (٣٢٨م-٣٧٣م)
«أثناسيوس الإسكندرى»، و«أثناسيوس الكبير»، و«أثناسيوس المعترف»، و«أثناسيوس الرسولى»: جميعها ألقاب لذلك القديس المجاهد العظيم الذى نال احترام وتقدير العالم بأسره. لقَّب القديس «باسليوس الكبير» البابا «أثناسيوس» بأنه «أسقف الأساقفة»، فقد ذكر فى إحدى رسائله إليه: «إن حسم النزاع فى مشكلة كنيسة أنطاكية منوط بك وحدك بوصفك أسقف الأساقفة».
يُعد «البابا أثناسيوس الرسولى» أباً لا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية وحافظ إيمانها الرسولى ومعلِّمها فحسب بل لكنائس العالم، فعندما يردد العالم بأسره اليوم قانون الإيمان، ترتسم صورة ذلك البطريرك العظيم أمام الأعين فى إجلال وتقدير وإعزاز لدوره الذى شهد له العالم فى «مجمع نيقية» عام ٣٢٥م، ولوضعه لقانون الإيمان.
وقدسية «البابا أثناسيوس الرسولى» أمر أقرته الكنائس الأخرى: فقد اعترفت به «الكنيسة الكاثوليكية» قديساً فى «روما» وأحد علماء الكنيسة البالغ عددهم واحداً وثلاثين عالِماً، وكذٰلك تُجِلّه «الكنائس الشرقية» كأحد الآباء الأربعة الأعاظم لديها، ويعتبره «البروتِستانت» عالماً عظيماً. وقد كتب «البابا أثناسيوس الرسولى» عديداً من الكُتب والمقالات التى تُعد مصدراً مهمّاً للكتابات الآبائية فى العالم.
وعند اختياره بطريركاً، قيل: «واجتمع كل شعب الكنيسة معاً، كما بفكر واحد وجسد واحد، هاتفين بصراخ أن (أثناسيوس) مستحق بالضرورة أن يكون أسقفاً على كنيستهم… وكل المدينة بل كل الإقليم (مِصر). لم يتكلم أحد بكلمة ضد (أثناسيوس)، بل كانوا يلقبونه بأعظم الألقاب وأكرمها، قائلين إنه: صالح، تقى، مَسيحى، ناسك، أسقف حقيقى…».
ومن أجل دفاعه عن الإيمان، نال «البابا أثناسيوس الرسولى» شدائد كثيرة استمرت قرابة نصف قرن لم يذُق فيها طعم الراحة بسبب الأريوسيِّين، فقد نُفى فى مدة باباويته عن كرسيّه خمس مرات، واتُّهم باطلاً باتهامات لا صحة لها قط، منها: الثورة على الإمبراطور، ومنع تصدير الغلال من «الإسكندرية» إلى الملك، والسحر، والقتل، والزنا!!! إلا أن الله لم يتركه، وقدم الدلائل والشُّهود على براءته من جميع التهم المنسوبة إليه. فلم يجد أتباع «أريوس» مناصاً من محاولة قتله واغتياله عدداً من المرات، ونجاه الله من بين أيديهم. وقد شهِد المؤرخ «سقراط»: «إن فصاحة (أثناسيوس) فى المجمع النيقاوى جرّت عليه كل البلايا التى صادفها فى حياته». وذكر عنه مثلث الرحمات «أنبا غريغوريوس» الأسقف العام للدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمى: «… هذا الرجل البطل (أثناسيوس) الذيى ليس لبطولته مثيل، هذا الرجل الذى صمد أمام العالم كله، اليوم العالم كله يحترم (أثناسيوس)، شرقاً وغرباً، يُحنى الرأس لـ(أثناسيوس). ولكن: من تحمّل الذى تحمله (أثناسيوس)؟ من الذى عاش المرارة والضيق والأزمات والاضطهادات والتعذيب والاتهامات؟…».
«البابا أثناسيوس» والرهبنة
صار القديس «أثناسيوس» تلميذاً للقديس «أنبا أنطونيوس»، فقد قضّى ثلاث سنوات معه، عائشاً حياة الزهد عن العالم، محبّاً حياة التأمل والعبادة والوَحدة وعدم الخوف من الموت، وفى هذا يقول: «لقد رأيتُ (أنطونيوس) مراراً وتعلمتُ منه، لأننى لازمته زمناً طويلاً، وسكبتُ ماءً على يديه (أى خدمتُه)». وفى تلك السنوات، وضع «البابا أثناسيوس الرسولى» كتابين: «بُطلان الأوثان»، و«وَحدانية الله». وقد أحب حياة الرهبنة، حتى إنه كتب يقول: «وهكذا صارت قلاليهم فى الجبال كهياكل مقدسة مكتظة بجماعة الأتقياء: يرنمون المزامير، ويُشغفون بالقراءة، ويصومون، ويصلون، فرحين برجاء الأمور العتيدة». وكان يرى حياة الراهب هى حياة نسك وشهادة مستمرة: وعندما توقف الاضطهاد أخيراً، وأكمل المغبوط «بطرس» شهادته (فى الخامس والعشرين من فبراير سنة ٣١١م)، انصرف «أنطونيوس» واعتزل ثانية فى صومعته وبقِى هناك؛ وكان كل يوم شهيداً أمام ضميره، مناضلاً فى جهاد الإيمان، وصار نسكه أشد صرامة لأنه كان دائم الصوم.
ويُعد «البابا أثناسيوس الرسولى» هو أول البطاركة الذين لبِسوا زى الرهبنة بيد أبيه الروحى «أنبا أنطونيوس»، وصار زيّاً للبطاركة من بعده. وقد كتب «البابا أثناسيوس الرسولى» سيرة القديس «أنبا أنطونيوس»، مسجلاً ما رآه واختبره فى حياته مع القديس، متكلماً كثيراً عن الرهبنة فى كل الأماكن التى ارتادها، ومنها «أوروبا» مما أثّر فى نشر الرهبنة هناك، وبصفة خاصة كتابه «أنبا أنطونيوس».
وفى ظل التهديدات والمقاومات التى عاناها «البابا أثناسيوس»، أرسل إلى معلمه «أنبا أنطونيوس» يطلب إليه أن يأتى إلى «الإسكندرية» لمقاومة بدعة «أريوس»، فاستجاب «أنبا أنطونيوس» ونزل إلى «الإسكندرية» مع أبنائه من الرهبان، وعضد البابا فى شدائده.
وكان «أنبا أنطونيوس»… و… وفى مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى