تحدثنا فى المقالة السابقة عن بيان الحكومات الثلاث: الوِلايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وفرنسا، المتعلق برفض قرار مِصر بتأميم شركة قناة السويس، ومحاولة تدويل القناة التى تُعد جزءًا لا يتجزأ من مِصر، ونص بيان الحكومة المِصرية ردًّا على البيان الثلاثىّ وتفنيد الادعاءات الواردة فيه.
تابع بيان الحكومة المِصرية
٤- وقد أعلن فى الفقرة الثالثة من التصريح: «إن العمل الذى اتخذته الحكومة المِصرية فى الظروف التى اتُّخذ فيها، يهدد حرية القناة وسلامتها كما كفلهما اتفاق ١٨٨٨م»؛ وهذا قول لا أساس له من الصحة؛ فليس هناك ارتباط بين شركة قناة السويس المِصرية وبين «اتفاقية ١٨٨٨م» الخاصة بحرية الملاحة فى القناة؛ فنص المادة الرابعة عشْرة من هذه الاتفاقية يقرر أن «الالتزامات الناتجة من الاتفاقية الحالية لا تتقيد بمدة الامتياز الممنوح لشركة قناة السويس».
وإن أىّ محاولة للربط بين شركة قناة السويس وحرية الملاحة فى القناة لأمر يدعو إلى مزيد من الشك، فإن شركة قناة السويس لم تكُن مسؤولة فى أىّ وقت من الأوقات عن حرية الملاحة فى القناة، و«اتفاقية ١٨٨٨م» وحدها هى التى تنظم حرية الملاحة فى القناة، والحكومة المِصرية هى التى تصون هذه الحرية بمقتضى سلطاتها على أرضها التى تمر بها القناة وتعتبر جزءًا لا يتجزأ منها. ومن الحقائق الواضحة أن مِصر لم تخرق أىّ اتفاق من اتفاقاتها الدُولية، ولا يتصور العقل أن شركة، مهما كانت، تعتبر مسؤولة عن حرية الملاحة فى قناة السويس وعن سلامتها.
وهذا الخلط بين شركة قناة السويس وحرية الملاحة ليس إلا صورة لمحاولة جديدة لخلق المبررات للتدخل فى الشؤون الداخلية لمِصر التى تعتبر من صميم سيادتها.
٥- وفى الفقرة الرابعة من التصريح تقول الدول الثلاث إنها ترى أنه «لا بد من اتخاذ إجراءات لإنشاء نوع من الإدارة تحت الإشراف الدُّولىّ؛ لتأمين العمل فى القناة بصفة دائمة كما نص على ذٰلك «اتفاق ٢٩ أكتوبر ١٨٨٨م»، مع مراعاة حقوق مِصر المشروعة».
وهذه الفقرة تبين بوضوح لماذا حاولت حكومات التصريح الثلاثىّ أن تُعطى شركة قناة السويس الصفة الدُّولية، متجاهلةً نصوص جميع الاتفاقيات والقوانين. كذٰلك إن التصريح يستهدف الاعتداء على حقوق مِصر الواضحة، وسلبها سلطة سيادتها على القناة التى تعتبر جزءًا لا يتجزأ من أرضها. بل إن «اتفاقيات ١٨٨٨م» نفسها تنص على استمرار أحكامها، سواء خلال مدة الامتياز، أو بعد انتهاء الامتياز وانتقال إدارة القناة إلى الحكومة المِصرية.
إن الحكومة المِصرية تعتبر اقتراح إقامة لجنة دُولية ليس إلا تعبيرًا مهذبًّا عما ينبغى تسميته بالاستعمار الدُّولىّ.
إن هذا الاقتراح الذى يرتكز على بيانات مضللة لإعطاء شركة مِصرية الصفة الدُّولية، إنما يبين بوضوح أن حكومات البيان الثلاثىّ ترمى إلى اغتصاب حق من صميم حقوق مِصر ومن صميم سيادتها.
٦- وإن الاقتراح المقدم إلى الحكومة المِصرية باسم الدول الثلاث لإنشاء لجنة دُولية لقناة السويس، يهدُف إلى إسناد إدارة القناة وضمان حرية الملاحة فيها إلى هذه الهيئة كما يهدُف إلى تنظيم تعويض شركة القناة.
ومثل هذا الاقتراح يبين أن الهدف من المؤتمر هو التدخل السافر فى الشؤون الداخلية لمِصر التى لا تدخل فى اختصاص أىّ مؤتمر.
٧- وقد صحب تصريح الوُزراء الثلاثة مؤامرة دُولية كبرى تهدُف إلى إجاعة الشعب المِصرىّ وإرهابه؛ فقد قامت الدول الثلاث صاحبة البيان بتجميد الأموال المِصرية فى بنوكها، وهى بهذا تخرق الاتفاقات الدولية وميثاق الأمم المتحدة، وتستخدم الضغط الاقتصادىّ ضد الشعب المِصرىّ، والبلد الذى حفر القناة وفقد من أبنائه مائة وعشرين ألفًا، علاوة على تحمله نفقات حفر القناة.
وقد أعلنت كل من بريطانيا وفرنسا تعبئة الاحتياطىّ، كذٰلك أُذيع رسميا تحرك قواتهما. وإن الحكومة المِصرية لتستنكر هذا الإجراء بكل شدة؛ فهو تهديد موجَّه ضد الشعب المِصرىّ لإجباره عن التنازل عن جزء من أراضيه أو سيادته للجنة دُولية هى فى الحقيقة استعمار دُولىّ.
وإن حكومتى بريطانيا وفرنسا باتخاذهما هذه الإجراءات التى لن يكون من شأنها إلا تهديد السلام والأمن العالميين؛ إنما تسلكان سبيلًا معارضا لميثاق الأمم المتحدة الذى تعهدتا باحترامه.
لقد قوبلت هذه التدابير التى قُصد بها تهديد جميع الدول الصغرى بالاستنكار، ليس من مِصر وحدها، ولٰكن من جميع الدول الحرة، ومن جميع الشعوب التى تخلصت من الحكم الاستعمارىّ بجهادها المرير، التى تكافح من أجل المحافظة على استقلالها.
٨- وعندما أعلنت الحكومة المِصرية تأميم شركة قناة السويس، أكدت من جديد عزمها على ضمان حرية الملاحة فى القناة. ولم يؤثر التأميم بحال من الأحوال فى حرية الملاحة فى القناة؛ كما يتضح بجلاء من عدد السفن البالغ عددها ٧٦٦، التى مرت بالقناة خلال الأسبوعين الأخيرين.
٩- أمّا عن الدعوة إلى المؤتمر، فإن الحكومة المِصرية لتعجَب أشد العجب؛ لأن بريطانيا قررت الدعوة إلى مؤتمر يبحث الأمور الخاصة بقناة السويس التى هى جزء لا يتجزأ من مِصر دون أىّ تشاور مع مِصر الدولة صاحبة الشأن المباشر.
وإن حكومة المملكة المتحدة انفردت بتحديد الدول التى تحضر هذا المؤتمر، وهى ٢٤ دولة، علمًا بأن الدول التى استخدمت القناة عام ١٩٥٥م ليست أقل من ٤٥ دولة.
١٠- ونظرًا إلى ما تقدم، فإن الحكومة المِصرية ترى أن المؤتمر المشار إليه، والظروف التى يجتمع فيها؛ لا يمكن أن يعتبر بأىّ حال من الأحوال مؤتمرًا دُولىًّا مختصًّا بإصدار قرارات.
وإن هذا المؤتمر ليس من حقه بأىّ حال من الأحوال أن يبحث فى أىّ أمر يتعلق بسيادة مِصر، أو يمَس سيادة جزء من أراضيها. وبناءً عليه، فإن الدعوة إلى مثل هذا المؤتمر لا يمكن أن تقبلها مِصر.
11- ولَما كانت مِصر تؤمن بالعمل بكل ما فى وسعها للمحافظة على السلام العالمىّ، وتتمسك بتعهداتها فى «ميثاق الأمم المتحدة» وبقرارات «مؤتمر باندونج» التى توصى بحل المشكلات الدُّولية بالطرق السلمية، لذٰلك فإن الحكومة المِصرية مستعدة للقيام، وحكومات الدول الأخرى الموقعة على اتفاقية القسطنطينية سنة 1888م، بالعمل على عقد مؤتمر، منها ومن بقية حكومات الدول التى تمر سفنها بقناة السويس؛ وذٰلك لإعادة النظر فى «اتفاقية القسطنطينية»، وللبحث فى عقد اتفاق بين تلك الحكومات جميعًا يؤكد من جديد ويضمن حرية الملاحة فى قناة السويس؛ ويسجَّل ذٰلك الاتفاق لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة، وتقوم هذه بنشره، وبترك الباب مفتوحًا لانضمام حكومات أخرى إليه كلما دعت الحال. وهكذا رفضت مِصر حضور المؤتمر.
أما عن رد فعل الاتحاد السوڤيتىّ فى أعقاب الدعوة إلى المؤتمر، فقد أصدرت موسكو بيانًا استنكرت فيه ألا تشارك منظمة الأمم المتحدة فى المؤتمر، إضافة إلى اختيار لندن مقرًّا له وليس القاهرة. كذٰلك لم تعترف موسكو بمشروعية المؤتمر؛ فقد جاء فيه: «إنه لا يمكن اعتباره أبدًا، لا من حيث قائمة المشاركين فيه، ولا من حيث طابعه وأهدافه، مؤتمرًا دُوليا يحق له اتخاذ أىّ قرارات بشأن قناة السويس». وأعلنت موسكو أن ما يطالب به الغرب من إدارة دُولية للقناة استنادًا إلى أن دولًا عديدة تستخدم المجرى الملاحىّ، فإن هذا بدوره يستدعى اتخاذ الموقف عينه بالنسبة إلى كل من: قناة «بنما»، وقناة «كييل»، ومضيق «الدردنيل». ومن المعروف أن الاتحاد السوڤيتىّ كان مؤىِّدًا ومرحِّبا بالقرار المِصرىّ بتأميم شركة قناة السويس؛ وقد صرح «خروشوف»: «إن مِصر تصرفت فى نطاق حقوقها، ولم تخرق القانون الدُّولىّ، وإن التأميم لا يمَس مصالح الغرب».
كذٰلك لم توجه دعوة إلى أىّ من الدول العربية لحضور المؤتمر، إذ كانت التأييدات لقرار التأميم قد انهالت على مِصر من الملوك والرؤساء العرب وبخاصة: السعودية، وسوريا، والأردن، ولُبنان. كما أصدر «اتحاد العمال العرب» قرارًا بالإضراب احتجاجاً على التهديدات الموجهة إلى مِصر. وذُكر عن «إيدن» أنه سجل فى مذكراته: «إن الأصوات بدأت تردد فى العالم العربىّ أن قناة السويس هى قناة العرب». فقد كان المؤتمر فى حقيقة الأمر يهدُف إلى اتخاذ قرار بإنشاء هيئة دُولية تتولى إدارة قناة السويس من خلال التصويت، ثم فرضه بالقوة على مِصر؛ لذا وُجهت الدعوة إلى الدول التى تساند الغرب فى سياسته نحو القناة.
مؤتمر لندن 16 أغسطس 1956م
دُعيت 26 دولة إلى حضور «مؤتمر لندن»، واختيرت تلك الدول من قِبل وُزراء خارجية الدُّول الثلاث: الأمريكىّ «ﭼون فوستر دلاس»، والفرنسىّ «كريستيان بينو»، والبريطانىّ «سلوين لويد»؛ فى اللقاء الذى عُقد فى لندن فى المدة من 29/7-2/8/1956م، عندما اقترحوا عقد مؤتمر تشترك فيه الدول الموقعة على معاهدة القسطنطينية والدول الأخرى المستخدمة للقناة. وقد حضره ممثلو 22 دولة هى: بريطانيا، وألمانيا، وإسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وهولندا، وروسيا، وتركيا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وإندونيسيا، واليابان، وسيلان، والهند، وباكستان، وإيران، والسويد، والنُرويج، والدِنمارك، والبرتغال، وإثيوبيا، والولايات المتحدة الأمريكية. ولم تحضر: مِصر، والنمسا، والمجر، واليونان؛ مع أن الدعوة قد وُجهت إليها. وقد أرسلت مِصر مراقبًا إلى لندن، وطلبت من الهند أن تتحدث نيابة عنها، وقد استجابت الهند لطلب مِصر و… وعن مِصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى