يرتبط شهر أُغسطس في ذهن المِصريِّين جميعًا بجزء عزيز غالٍ من أرضهم الحبيبة، كثيرًا ما دافعوا عنه، وقدموا لأجله كل ما لديهم، ولم يضنوا بأرواحهم في سبيل الزَّود عنه: إنها “قناة السويس”. ففي مثل تلك الأيام من عام ٢٠١٤م، أُطلق العمل في أحد المشروعات المِصرية الضخمة: “قناة السويس الجديدة”، ليُفتتح المشروع للعالم بعد عام من بدئه، لتظل “مِصر” حاملة الحضارة للعالم وصاحبة الإنجازات التي يسجلها التاريخ على صفحاته.
إن “مِصر” بموقعها المتميز المتفرد، الذي يُعد إحدى المعجزات الجغرافية؛ كانت على مر تاريخها مَِحط أنظار العالم، ومطمع لكثير من دُول العالم. لم يبدأ الصراع للسيطرة على “مِصر” في عُصور التاريخ الحديثة، بل امتد إلى عمق التاريخ منذ عصور الفراعنة القديمة ومحاولة “الهكسوس” وغيرهم للسيطرة عليها. وعندما نتوقف أمام صفحات تاريخ عصرنا الحديث، نجده يقف شاهدًا على ذٰلك السعي الدائم الذي لا يتوقف من الغرب للسيطرة على “مِصر” من أجل التحكم في العالم، والتجارة بصفة خاصة، من خلال قناة عُرفت منذ أيام الفراعنة ثم صارت حُلمًا يراود الغرب في تحقيقه: “قناة السويس”.
لقد شغلت القناة فكر القدماء، وحُفر على جدران الزمن اسم “مِصر” كأول دولة تربط بين البحرين المتوسط والأحمر عندما شقت عبر أراضيها قناة صناعية، مستخدمةً نهر النيل وفروعه. فقد وعى فراعنة “مِصر” أهمية موقعها في قلب العالم، وإطلالتها على بحرين من أهم البحار، ليقدموا للعالم ـ كما اعتادت مِصر ـ كل ما هو جديد؛ فجاءت قناة قناة “سيزوستريس” التي حُفرت في عهد الملك “سِنُوسِرت الثالث”، ثم في عهد “سيتي الأول”؛ وبعد ردمها على مر السنوات قام الملك “داريوس الأول” في أثناء الاحتلال الفارسيّ لـ”مِصر” بإعادة الملاحة في القناة. وهٰكذا صارت فكرة القناة في خيال أولٰئك الذين حكموا “مِصر” على مر تاريخها القديم: فمنهم من ظلت في خيالهم فكرة، ومنهم من جعل منها حُلمًا متحققًا على أرض الواقع.
وفي العصر الحديث، يؤكد التاريخ من خلال وثائقه نظرة الغرب نحو “مِصر”؛ فتذكر إحدى الوثائق ـ التي رُفعت إلى ملك فرنسا “لويس الرابع عشر” من شخص يُدعى “لبنتز” عام ١٦٧٢م يسأله فيها غزوها: “أريد أن أتحدث إليكم، يا مولاي، بمشروع غزو «مِصر». ولا يوجد بين أجزاء الأرض بلد غير «مِصر» تُمكن السيطرة منه على العالم كله، وعلى تجارة الدنيا بأسرها …”. ولم تبرح فكرة السيطرة على “مِصر” وشق قناة في أرضها خيال الغرب؛ فمنذ عام ١٧٨٤م وهناك مذكرات تُرسل تحمل في طِياتها معلومات عن مشروع القناة. وقد كان إيمان قُوى الغرب أن من يحكم “مِصر”، ويستطيع أن يشق “قناة” فيها كـ”قناة السويس”، يمكنه أن يحكم العالم بأسره، وفي هٰذا السياق نرى تقرير بعض التجار الفرنسيِّين قالوا فيه: “إذا أردنا أن نتخلص من منافسة الإنجليز لنا في «البنغال»، فلا بد من أن تسيطر «فرنسا» على «السويس» و«البحر الأحمر».”؛ وقد نوقش هٰذا التقرير في الجمعية الوطنية بـ”فرنسا”، الذي استمع “بونابرت” إلى المناقشات بشأنه، فقرر إعداد حملة لغزو “مِصر”. وقد قال “نابُليون” عن “مِصر”: “في «مِصر» قضَّيتُ أجمل السنوات. ففي «أوروبا» الغُيوم لا تجعلك تفكر في المشاريع التي تغير التاريخ. أمّا في «مِصر»، فإن الذي يحكم بإمكانه أن يغير التاريخ.”!
هٰكذا صارت “قناة السويس” دائمـًا حُلمًا نُصْب أعين الغرب؛ فذكر المهندس الفرنسيّ ” تشالز لوبير” رئيس البَعثة في تقرير له: “إن تفوق «مِصر» الذي حبَتها به الطبيعة قابل للزيادة، إن استطاعت الحكومة الأوروبية التي تستعمرها أن تشق القناة التي لا ينازع أحد في مزاياها …”. كذٰلك كتب “بونابرت” في مذكراته، يقول: “إن الإنجليز يرتعدون وتنخلع قلوبهم إذا رأَوا «فرنسا» تحتل «مِصر». ونحن بهٰذا الاحتلال نستطيع أن نبين لـ«أوروبا» الطريق العمليّ إلى حرمان الإنجليز من «الهند».”. وهٰكذا ظلت قوى الغرب تسعى على مر التاريخ للتحكم في “قناة السويس”، حتى إنها أثارت الحرب والعُدوان على “مِصر”! إلا أن القناة كانت وتظل جزءًا لا يتجزأ من وطنها “مِصر”، ومن تاريخها وحياة أبنائها، فقد حُفرت في أرضهم بسواعدهم، ودُشِّنت بجَهدهم وعرقهم ودمائهم؛ إنها “مِصرية”.
ففي مثل تلك الأيام امتدت السواعد المِصرية وتكاتفت مدة عام امتلأ من البذل والعمل والجَهد المضني الذي لم يتوقف، ورأينا “أم الدنيا” وهي تكتُب ميلاد “قناة السويس الجديدة” على صفحات التاريخ، لا لـها فقط بل للعالم، راسمة مستقبلاً جديدًا له؛ إنها حقًّا هدية “مِصر” إلى العالم، إذ تمثل شَِريانًا آخر يقدم توفيرًا للوقت والجُهد والمال لتجارته!
إن “قناة السويس”، التي تُعد من أهم قنوات الملاحة في العالم، وما يحمل مشروعها من خطوات أخرى للتنمية الشاملة للمَِنطقة التي تجعل من “مِصر” مركزًا لوچيستيًّا وتجاريًّا عالميًّا، تُعد أحد مشاهد التنمية التي تسعى “مِصر” لتحقيقها من أجل مستقبل كريم لأبنائها؛ وهٰذه هي بداية الانطلاقة نحو مستقبل جليل لبلد عظيم. ونحن نفتخر جميعًا بأن “قناة السويس” مِصرية منذ بزوغ فكرتها الأولى مع الملك “سِنُوسِرت الثالث”، قد حفرتها على مر العصور أيدٍ مِصرية، وسُفكت الدماء المِصرية من أجل المحافظة عليها. واليوم في ذكرى افتتاح مشروع “قناة السويس الجديدة”، لا يمكننا أن ننسى أن تمويل الجزء المتعلق بالقناة وبحفرها وبملكيتها المِصرية الخالصة، لتكون القناة مِلكًا دائمًا وأبدًا للمِصريِّين. وقد شهِدت “مِصر” شعبها العظيم وهو يتقدم على مختلِف فئاته وشرائحه في تكاتف، من أجل العمل لـ”مِصر” ومشروعها التنمويّ، حيث توفر المال اللازم للحفر من المِصريِّين أنفسهم. إن تنفيذ هٰذا المشروع العملاق هو علامة تقدُّم في قدرة المِصريِّين وقوة إرادتهم وعزيمتهم على تحقيق الإنجازات واجتياز التحديات ببراعة واقتدار. إن “مِصر” بأبنائها المخلصين ـ الذين يبرهنون كل يوم على إخلاصهم وجِدهم في العمل ـ سوف تُبنى عائدةً إلى مكانتها وصدارتها.
وهٰكذا في ذكرى افتتاح مشروع “قناة السويس الجديدة”، نتذكر جميعًا أن الطريق نحو البناء ما يزال أمامنا، وإن كان البناء يحمل في طِياته التعب والمشقة والاحتمال، فإنه يحمل الخير والسعادة والسلام. إن طريق البناء دائمًا يصل بمرتاديه نحو القمم والإنجازات ويمنحهم القوة، وهو ما يستدعي تكاتف جميع القوى وأفراد الشعب للعمل معًا.
أهنئ المِصريِّين والعالم بأسره بذكرى افتتاح “قناة السويس الجديدة”، ذكرى الخير المحمول إلى “مِصر” والعالم. حفِظ الله “مِصر” وصانها من كل شر، وشدد أيدي أبنائها للعمل من أجل رفعتها؛ فـ”مِصر” هي العلامة الفارقة في التاريخ وفي الحضارات وفي الأديان، أرض الخير والبركة والمحبة والسلام.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي