تحدثنا في المقالة السابقة “دمعة ثم …” عن رحلة الحياة التي تتردد بين دِمْعات وابتسامات، ودور الدِّمْعات في نُمو حياة الإنسان وبنائها وإثمارها فتتغير من “الألم” إلى “الأمل” و”العمل”! فترات تنطلق منها قدرات الإنسان لتتحدى الألم، في إصرار على العمل، من أجل أن يتخطى وطأته في حياته بل يساعد من يتعرض له على اجتيازه أيضًا بنجاح.
كذٰلك من الممكن أن تأتي فترات الدُّموع من أجل أن يتعلم الإنسان منها درسًا جديدًا، أو لقهر شيء سلبيّ ما في أعماق نفسه. أتذكر هنا ما ذكره البعض عندما أشاروا إلى بعض عادات الأمريكيِّين الهنود وتقاليدهم في بدايات عهدهم، حين كانوا يقومون بتدريب أبنائهم، وهم ما يزالون في سن صغيرة، على مهارات الصيد والقتال من أجل غرس الشجاعة فيهم، من خلال دعم قدراتهم البدنية والنفسية. ومع إتمام الأبناء لعامهم الثالث العشَر، كان على كل منهم اجتياز اختبار يُطلق عليه “اختبار الشجاعة”، حيث في نهايته يقلَّد وسام النصر والشجاعة إن تمكن من تخطيه بنجاح.
في ذٰلك الاختبار، تُعصَب عينا الصبيّ، ثم يُحمل بعيدًا إلى إحدى الغابات الكثيفة؛ وهناك وقت حُلول الظلام تُرفع العُصابة عن عينَي الصبيّ، وعليه أن يُمضِّي تلك الليلة في الغابة دون أن يرافقه أحد؛ ولنا أن نتخيل صعوبة قضاء الليل وكل دقيقة منه تمر كأنها الدهر بأسره! ومن دون شك، هي ليلة من أصعب الليالي وأطولها وأثقلها على أي إنسان. كانت ليلة يحاول فيها الصبيّ قهر الخوف في أعماقه والتغلب على المشاعر السلبية التي قد تمر بأفكاره من أجل أن تَثنيه عن استكمال الطريق، ليلة تمثل استثمارًا لجميع ما تعلمه في حياته من دُروس واستنفارًا لما اكتسبه وأصقله بالتدرب من مواهب تمكِّنه من تخطي المخاطر، ليلة يتعلم فيها الصبيّ أن أمورًا مؤلمة في الحياة عليه أن يجتازها بنفسه وحيدًا، ليلة يترك فيها الصبر ملامحه على حياة الصبيّ في وقت الشدائد، لٰكنه صبر مُكتَسٍ بالأمل في عبور الليل إلى إشراقة شمس يوم جديد.
ولٰكن كان للقصة جزء ثانٍ يمثل جانبًا آخر من الممكن ألا يُدركه الإنسان في أوقات عُبوره “جسر الألم”: وهو أنه “ليس وحيدًا”؛ فبينما كان الصبيّ يجتاز ليلته وحيدًا ـ كما ظن ـ اكتشف مع بُزوغ الفجر وانطلاق أشعة الشمس الذهبية أنه لم يكُن وحيدًا! كان والده ملازمًا إياه الليل كله !! لم تطاوعه نفسه أن يفارق ابنه ليدفع عنه أيّ خطر يتهدده ، وفي الوقت نفسه، لتتأكد في نفسه شجاعة ابنه واستحقاقه أن يقلَّد ذٰلك الوسام.
كثيرًا ما تعبر بنا أوقات ضعف وآلام، فيها لا نتمكن من رؤية أولٰئك المخلصين من حولنا الذين يحاولون دفع المخاطر والضيق عنا، وتبدو الحياة كأن لا أحد!! لٰكن دائمًا وأبدًا حضور الله: يعضِّد، ويقوي، ويساند كل نفس تلجأ إليه وهي تجتاز ليلة “اختبار الشجاعة”.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ .