سؤلَ مثلث الرحمات قداسة البابا الأنبا شنوده الثالث سؤالاً وهو: متى بدأت حياة الرهبنة؟:
أجاب قداسته وقال:
أفضل إجابة على ذلك أن أعكس السؤال ليصبح: متى بدأت الرهبنة حياتها فيَّ؟ إن الرهبنة تبدأ في القلب؛ وذلك قبل أن يأخذ صاحبها وضعه الرسمي حين يُرسم راهباً في أحد الأديرة. كانت الرهبنة في البداية تعني موت القلب عن العالم ويبدأ الموت عن العالم في القلب. فإذا مات القلب عن العالم دخل صاحبه في الرهبنة، وبعد ذلك يأخذ الوضع الرسمي فيصبح راهباً. تبدأ الرهبنة فينا قبل أن نبدأ فيها على نحو رسمي.
وهذا ما حدث لي في الواقع، فقد بدأت أشعر أن كل شيء في العالم لا يُشبِع القلب من الداخل، كانت عملية الموت عن العالم أو موت العالم في قلب الإنسان قد بدأت تستولي على قلبي، وتنمو فيه يوماً بعد يوم، وكنت أُعَبِّر عن تلك الأحاسيس في سلسلة مقالات شرعت في كتابتها في الفترة الممتدة ما بين عامي 1951م و1954م ـ حيث إني ترهبت سنة 1954م ـ وقد جاءت هذه المقالات تحت عنوان: “انطلاق الروح”. وما أقصده هنا هو انطلاق الروح من روابط العالم كلها حين تكون الروح طليقة في علاقتها مع اللَّه.
وأذكر الآن واحدة من هذه المقالات كان عنوانها: “لست أريد شيئاً من العالم” كتبتها قبل دخولي الرهبنة، قلت من بين ما قلته: “لست أريد شيئاً من العالم، فليس في العالم شيء أشتهيه”. (هذه صورة عن تجارب المبتدئين). وقلت أيضاً: “لست أريد شيئاً من العالم؛ لأنَّ العالم أفقر من أن يعطيني، لو كان الذي أريده في العالم، لانقلبت هذه الأرض سماءً، ولكنها ما تزال أرضاً كما أرى … لست أريد شيئاً من العالم، فأنا لست من العالم … لست اريد شيئاً من العالم، لأن كل ما أريده هو التَّخلُّص من العالم، أريد أن أنطلق منه، من الجسد، من التراب! وأرجع ـ كما كنت ـ إلى اللَّه، نفخة “قدسية” لم تتدنس من العالم بشيء.
وأتذكَّر أيضاً أنني كتبت قصيدة حول هذا المعنى تُعبِّر فكرتها الرئيسية عن نهاية كل شيء، والمقصود هنا هو أن مصيرنا في يوم من الأيام أن نترك الدنيا ونرحل إلى العالم الآخَر، وكل ما نبحث عنه ونجاهد في سبيله سوف نخلِّفه وراءنا راحلين عن هذا العالم.
لابُد إذاً أن نستعد لهذا الموت قبل أن يأتينا. وأذكر في هذه المناسبة قول السيد المسيح للغنيّ الغافل ـ الذي قال ـ :”…أهدّم مخازني وأبني أعظم منها وأجمع مقتنياتي …“ هذا ما كنت أفكِّر به حين نَظَمْت قصيدة بعنوان: “وماذا بعد هذا”، كان ذلك في عام 1948م بعد تخرجي في الجامعة بسنة؛ حين بدأت الفكرة تتبلور في داخلي وأنا ما أزال طالباً في الجامعة. وقد نُشرت القصيدة في مجلة “ندرت” عام 1948م وجاء فيها:
سأهْدِمُ في المخَازِنِ ثـُـمَّ أبْنِي |
وأجْمَعُ فِضَّتي وأضُمُّ تبرِي |
المقصود هنا ليس شؤون المال وإنما شؤون عظمة الإنسان:
سَأَسْكُنُ في قُصُورٍ شاهِقاتٍ |
وأحْيا مِثلَما تَشْتاقُ نَفْسِي |
ثم أذكر في الأبيات القادمة بأن العظمة تأتي من خلال العلم. هناك بالطبع أشياء أخرى كثيرة، ولكني ركَّزت على العلم:
سَأقَضِّي العُمْرَ في جِدٍ وكَدٍّ |
وأجْلِسُ فَوقَ عَرْشِ العِلْمِ وَحْدِي |
الحياة إذاً بمجموعها لا تستحق من الإنسان أن يتعب من أجلها، فسيأتي عليه حين من الدهر، يتركها فيه لا محالة، شاء أم أبى. يتوجَّب عليه إذاً أن يبحث عن الأشياء التي تبقى معه ويبقى معها، ألا وهيَ محبة اللَّه، وتلك هيَ الغاية في العالم الآخر، أشير هنا إلى آية مشهورة من أقوال القديس “بولس الرسول” يقول فيها: ”غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى، بل إلى التي لا تُرى، لأن التي تُرى وقتيّة والتي لا تُرى أبديّة“ ( 2كو 4 : 18 ). عند هذه النقطة تبدأ الفكرة الرهبانية في التَّجلِّي أننا سنعيش في هذا العالم ونبلغ أقصى مداه حتى منتهاه، وماذا بعد، لا شيء، سوى الخواء وقبض الريح.
الحكمة إذاً تتمثَّل في الاهتمام بالعالم الآخر. ونحن نبدأ العالم الآخر من الآن، أو كما يقول بعض الآباء: “نتذوق الملكوت من الآن إلى أن نذهب إليه فيما بعد”.
هكذا بدأت أعدّ نفسي لهذا الأمر؛ إن عليَّ واجبات في هذا العالم لابد أن أنتهي منها، لا بأس. إن للناس حقوقاً عليَّ لابد أن أوفِّيها لهم، حسنٌ. لم أكن أفكِّر إذاً فيما إذا كان ينبغي أن أحيا الرهبنة أم لا أحياها، بل كنت مُصمِّماً عليها و ماضياً نحوها. فلمَّا وجدت الوقت مناسباً اندفعت إلى حياة الرهبنة، وكان هذا يعني بالنسبة إليَّ حياة الوحدة الكاملة، أي أن ينفرد الإنسان ويُمْعن في الانفراد، ويَلِج في عمق حياة الوحدة حتى يصل إلى نهايتها.
وهذه الدرجة هي التي يسمونها في كتب الآباء درجة “السواح”؛ أي الذين يهيمون في الجبال، ليس لهم مكان مُعيَّن يقيمون فيه. وإن اختاروا مكاناً وعُرِِف ذلك المكان لجأوا إلى غيره، وعاشوا بلا اسم ولا لقب ولا مكان ولا دير. وحول هذا المعنى كتبتُ آخِر قصيدة، وذلك قبل بدء حياة الرهبنة في يوليو سنة 1954م وقد جاء فيها:
أنا فـي البَيْداءِ وَحْدِي |
لَيْسَ لـي شَأنٌ بَغيْرِي |
ثم أحببت طريق الرهبنة كي أحيا تلك الحياة الطليقة. فعشت في دير السريان وبدأت أولاً بحياة المجمع في “دير السريان”، واخترت لي اسماً هو “أنطونيوس السرياني”، لسببين: أولاً: لأنني كنت أحب حياة الأنبا أنطونيوس أوَّل راهب عاش حياة الرهبنة، ووضع أُسُسها، وكان كل عظماء الرهبنة في القرن الرابع من تلاميذه.
وثانياً: لأنني نشأت في كنيسة الأنبا أنطونيوس في شبرا، وكنت مُتعلِّقاً بِاسم الأنبا أنطونيوس.
بعد أن أمضيت في الدير فترة انطلقت إلى مغارة قريبة من الدير على بُعد ثلاثة كيلو مترات ونصف، وعِشت فيها وحيداً، ثم ذهبت بعد ذلك إلى مغارة أخرى على بُعد حوالي اثني عشر كيلو متراً من الدير، وعِشت عزلة فيها، فكنت أُقَضِّي الأسابيع دون أن أرى وجه إنسان، وكانت تلك الأيام أسعد أيام حياتي وأقربها إلى اللَّه.
وفي أحاديث قداسته كان يتذكَّر أسعد الأيام التي عاشها وأحبها في المغارة.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ