غدًا يرحل عام يودعنا، حاملاً كثيرًا من الأحداث التي اتسمت بها أيامنا: منها أحداث أحزنتنا، ومنها ما أسعدنا؛ فنودعه بمشاعر اختلط فيها الفرح بالضيق، والسعادة بالألم، والنجاح بالتعثر. ومع نهاية العام، أجدني لا أستطيع التحدث إلا عن “السلام”؛ ذٰلك السلام المفتقَد في رُبوع العالم بين كلمات تدعو إليه، وأفعال تغتاله! لتزداد حَِيرة البشر الأبرياء نحو معنى الحياة. فإن كان السلام هو هبة السماء إلينا، لٰكنه كالبذار التي تحتاج إلى الرعاية والعناية والاهتمام كي تنمو ويستظل العالم بها.
إن السلام دَور كل منا في الحياة، وعلينا أن نمارس أدوارنا بأمانة نحو تحقيقه ونشره، بأفعال تسبق الأقوال، فالتأثير الحقيقيّ هو للعمل، في حين يندثر سريعًا وهْج الأحرف والكلمات. إن أردت السلام، فابدأ بنفسك وضَع بذاره في حياتك، في قلبك ومشاعرك وأفكارك، حتى يتحول إلى سلوك تنبعث أضواؤه كل يوم، وخصوصًا حين تمر بنا فترات من الضيق والظلمة. بَدء السلام هو من داخلنا، وتحقيقه يبدأ بكل منا، إن لم نُدرك ذٰلك وانتظرنا ـ كلٌّ إنسان ـ كي يقدم السلام، فستمر غربة الحياة دون أن نعرِفه أو نُدركه في الحياة. حين تُدرك ذٰلك، فاذهب إلى بيتك وأسرتك وابدأ معهما بالسلام.
في الأسرة الواحدة، كثيرًا ما تختلف الآراء وتتنوع الشخصيات، بل ربما تتباين تباينًا صارخًا، وعلى كل فرد فيها أن يتعلم كيف يعيش مع الآخرين فيها، وإلا عاش كل فرد في جزيرة منعزلة يظن الآخر خطرًا ينبغي التخلص منه!! وتَضحَى الحياة إلى نوع من التناحر والتقاتل ينتهيان بموت الجميع. أتساءل: أرأيتَ مجتمعًا يعمه السلام، تتناحر الأسر فيه؟! إنها البداية، الأسرة هي البداية، نتعلم ونمارس فيها مبادئ السلام، وحينئذ يمكننا التقدم نحو الآخرين بيد ممتدة بالسلام فيسود مجتمعاتنا.
أيضًا يُعد السلام الذي يقدمه الإنسان هو علامة إيمانه بالله: إلٰه السلام، وصانع السلام، ومطوِّب جميع السالكين بالسلام؛ لذٰلك أقدم نداءً إلى العالم، إلى كل إنسان يحيا على الأرض، إلى كل من هو في موضع مسؤولية: ليكُن عامنا الجديد عام السلام، السلام الحقيقيّ الذي هو بأفعالنا وتعليمنا معًا. يكفي لأولٰئك الذين لا يعرفون قيمة السلام: أن يتجولوا قليلاً بين صفحات التاريخ بما تحمل من أحداث ليُدركوا أثر التناحر والتقاتل والبُغضة والكراهية، لا على من تمارَس ضدهم فقط، بل على من يبُثونها أيضًا، وما يتبع تلك من موت ودمار للجميع؛ وفي المقابل: ما قدمَته كل نفس أطلت بالسلام في حياتها من مشاعر الأمن والاطمئنان والنجاح وفي حياة الآخرين.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ