تكلمنا فى مقالة سابقة بعنوان «ضحية السعاية» لحكم الخليفة «المأمون» فى مدينة «مَرْو»، حين كانت إدارة شؤون الدولة بيد «الفضل بن سهل» الذى تسبب فى تردى الأمور فى «العراق» وقيام ثورة «محمد بن إبراهيم» التى دامت قرابة عشَرة أشهر. ثم تحدثنا عن موت القائد «هَرْثَمة» نتيجة الإيقاع بينه وبين «المأمون»، وعرضنا للاضطرابات التى اجتاحت «بغداد» جراء بَيعة «المأمون» للخلافة من بعده إلى «على الرضا» العَلَوى، وترْك «المأمون» مدينة «مَرْو»، متجهًا إلى «بغداد» مع وزيره «الفضل بن سهل» الذى قُتل فى أثناء تلك الرحلة. وأعقب ذلك موت «على الرضا» المفاجئ، وإرسال «المأمون» إلى أهل «بغداد» يخبرهم بذلك، طالبًا منهم العودة إلى طاعته بعد زوال سبب ثورتهم، واستجابتهم له.
«المأمون» فى «بغداد»
اتجه «المأمون» صوب «بغداد» ودخل المدينة عام ٢٠٤هـ (٨١٩م) فى موكب كبير، وقد استقبله أهلها استقبالًا حافلًا، ثم عقد اجتماعًا مع رجال الدولة ولبى جميع حاجاتهم، فعم الفرح البلاد. اتخذ «المأمون» من «بغداد» مقرًّا لحكمه، ويَعُدّ المؤرخون ذلك بداية حقيقية لحكمه.
حكم سديد
ظهرت قدرة «المأمون» وبراعته على إدارة شؤون البلاد فى تلك الحِقبة بحكمته ومزاياه المتنوعة، فيُذكر عنه: «وساس الأمة سياسة لين لا يشوبه ضعف، وقوة لا يشوبها عنف». وأخذت «بغداد» تستعيد نضرتها التى كانت لها فى عهد أبيه، وعظمت بها الحركة العلمية، وقد اتسم حكمه بالتسامح: فقد عفا عن «الفضل بن الربيع» وزير أخيه «الأمين»- وكان قد ساعد «إبراهيم بن المهدى» فى ثورته- كما عفا عن غيره ممن كانوا مصادر اضطرابات.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن «المأمون» كان حليمًا وعادلًا: فيُحكى أنه قدم إليه بعضهم رُقعة يقولون فيها إن رجلًا غنيًا مات تاركًا مالًا كثيرًا ولا وريث له سوى طفل رضيع إن تحكَّم فيه أحد فسوف يضيع ماله هباءً، وأنه هو الخليفة وأولى بالمال، فقيل: «فأخذ الرُّقعة وكتب على ظهرها: الطفل جبره الله وأنشاه، والمال ثمره الله وأنماه، والميت رحِمه الله ورضى الله عنه وأرضاه، وأما الساعى لى فى أخذه فلعَنه الله وأخزاه»، وذُكر عنه أيضًا أن قدموا إليه رُقعة عندما مات وزيره «عمرو بن مسعدة» يقولون فيها إنه ترك مالًا كثيرًا قدره ثمانون ألف ألف درهم (ثمانون مليونًا)، فكتب «المأمون» على ظهرها: «هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا».
«طاهر بن الحُسين»
ولَّى الخليفة «المأمون» القائد «طاهر بن الحُسين» حكم «بغداد»، وجعل حكم «الرِّقة» بيد ابنه «عبدالله بن طاهر»، ولكن لم يلبث الأمر هكذا فى ود طويل بين الخليفة و«طاهر» فقد ساءت العَلاقة بينهما- لأسباب اختلف عليها كثيرون- ما أدى إلى أنه أبعده عن «بغداد» وجعله حاكمًا على «خُراسان». حكم «طاهر» على «خُراسان» بكثير من الحزم وسداد الرأى والحكمة حتى استتبت أمورها وتقوَّى جدًّا فيها مركزه وسلطانه. ومع عام ٢٠٧هـ (٨٢٢م)، بدأ حُلم الخلافة يراود «طاهر» فقرر الخروج على الخليفة فأسقط اسمه من خطبة الجمعة، ولكن سُرعان ما انتقلت تلك الأخبار إلى «المأمون»، ولم يمضِ وقت قصير على ذلك حتى ذاع خبر موت «طاهر» الذى اختلف المؤرخون فى طريقة موته، إلا أن كثيرين منهم اتفقوا على أن أحد أتباع الخليفة قد دس السُّم له فلقِى حتفه سريعًا. ثم ولَّى الخليفة «طلحةَ بن طاهر» ولاية «خُراسان» من بعد موت أبيه.
ثوْرات داخلية
كانت عَلاقة «المأمون» بـ«العَلَويين» تتسم بالود وكان يعاملهم معاملة طيبة حسنة إلى أن قام عليه أحدهم ويُدعى «عبدالرحمن بن أحمد»، وذلك فى بلاد «اليمن» عام ٢٠٧هـ (٨٢٢م)، فأرسل الخليفة إليه أحد قواده «دينار بن عبدالله» لإخماد ثورته وقد تمكن بالفعل من التغلب عليه، ومنذ ذلك الحين والعَلاقة سيئة بين الخليفة «المأمون» و«العَلَويين» وأمر بعدم دخولهم إليه، كما أمرهم بلبس الأسود بدلًا من الأخضر، وقد أشار بعض المؤرخين إلى أنه أوصى بهم خيرًا فى وصيته التى تركها لأخيه «المعتصم».
ثورة «نصر بن شَبَث»
قام «نصر بن شَبَث» بالثورة على «المأمون»، فأرسل «طاهر» أولًا لإخمادها لكنه لم يحارب «نصر» بجِدية وشدة إذ كانت اعترته صدمة كبيرة من إبعاده عن «العراق» بيد «الفضل بن سهل» وزير «المأمون». استمرت ثورة «نصر» إلى أن أرسل الخليفة قائده «عبدالله بن طاهر» للقضاء عليها وإخضاع «نصر» له، وظلت الحرب قائمة بينهما قرابة خَمْس سنوات حتى استسلم «نصر» بعد فقد كثير من قواده، وهكذا انتهت ثورته التى تسببت فى قلاقل كثيرة واضطرابات دامت عدة سنوات. فرِح الخليفة فرحًا عظيمًا بأخبار الانتصار على «نصر»، واستقدمه إلى «بغداد» فى موكب كبير خاضعًا ومستسلمًا عام ٢١٠هـ (٨٢٥م)، وحدث فى تلك الأثناء أن دبر شخص يُدعى «إبراهيم بن مُحمد بن عبدالوهاب»- المعروف بـ«ابن عائشة»- مؤامرة مؤداها قطع جسر الزوارق المقام على «نهر دجلة» فى أثناء مرور موكب «نصر» عليه، هادفًا إلى إثارة القلاقل بالمدينة حتى يتمكن من إعادة »إبراهيم المهدى» للخلافة، لكن المؤامرة كُشفت قبل اكتمالها وقُبض على زعيمها «إبراهيم» والمتآمرين معه، وسُجنوا ثم قُتلوا.
أيضًا تصدى الخليفة «المأمون» لثورة جماعة أطلق عليهم «الزُّط». ويذكر أحد المؤرخين: «الزُّط»- معرَّب «جت»- قال عنهم «ابن خلدون»: هم قوم من أخلاط الناس، غلبوا على طريق «البصرة»، وعاثوا (أتلفوا) فيها وأفسدوا البلاد.. أصلهم من هُنود «آسيا»، كانوا يسكنون شواطئ «الخليج الفارسى»، تجمعوا واستولَوا على طريق «البصرة» أيام الفتنة التى كانت بين «الأمين» و«المأمون»، وقد استمرت ثورتهم فى أثناء حكم «المأمون» حتى عصر «المعتصم».
ثورة أخرى اندلعت على الدولة العباسية عام ٢٠١هـ (٨١٦م)، قادها شخص يُدعى «بابَك الخُرَّمى»: وهو من «البَذّ»، ونشأ بقرية «بلاد أباذ» فى شَمال «فارس»، وأتى تابعيه بمذهب إباحى- كان يطلق عليه «الخُرَّمِيَة»- أحل فيه كل ما يريدونه ويشتهونه من قتل وغصب وانتهاك للحرومات وحروب وغيرها من الأمور المخلة، وقد ذكر عنهم «ابن النديم»: «الخُرَّمية» صِنفان: الخُرَّمِية الأولون ويسمون «المُحَمَِّرة» وصاحبهم «مَزْدَك القديم»، فأما «الخُرَّمِية البابَكية»، فإن صاحبهم «بابَك الخُرَّمى» وكان يقول لمن اتبعوه إنه إله، وأحدث فى مذاهب «الخُرَّمِيَة» القتل والغصب والحُروب والمَثُلة (العقوبة والتنكيل)، ولم يكُن «الخُرَّمِيَة» يعرفون ذلك. كان «بابَك» على صلة وطيدة بملك جبال «البَذّ» ورئيس من يتبعون «الخُرَّمِية» بها «جاويدان بن سهرك» الذى بعد موته تزوج «بابك» بامرأته وتملك بدلًا منه، وأخذ ينشر مذهبه، ولما وصل خبره إلى المأمون أراد القضاء عليه فأرسل إليه قائده «يحيى بن معاذ» فلم يستطِع التغلب عليه، فأرسل قائدًا آخر هو «عيسى بن مُحمد بن أبى خالد» لكنه فشِل فى ذلك، فعاد وأرسل ثالثًا فتمكن منه «بابَك» وأسره! وفى عام ٢١٤هـ (٨٢٩م) أرسل «المأمون» قائدًا رابعًا هو «مُحمد بن حُميد الطُّوسى» فلم يقوَ على «بابَك» وقُتل بيده مع عدد كبير من جنود الجيش العباسى!! ازداد الأمر سوءًا وتقوت شوكة «بابَك» وتبِع كثيرون من أهل الجبال مذهبه، ولم يتمكن «المأمون» من التغلب عليه لانشغاله بأمور أخرى تعرضت لها الدولة العباسية، وظل الحال هكذا حتى مات «المأمون» موصيًا أخاه «المعتصم» بالتصدى له.
أحوال «مِصر»
أمّا عن «مِصر» فى ذلك الزمان العصيب، فقد شهِدت هى أيضًا اضطرابات شديدة، و… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ