تحدثنا في المقالة السابقة “بابا المغفرة” ببعض أحداث مرت بحياة “البابا يوساب الأول”، الثاني والخمسين في بطاركة “الكرسيّ المَرقسيّ”، وما مر به من ضيقات من كل من: أُسقفي “مِصر” (أو “الفسطاط”) و”تنيس”، والشماس “تادرس”، وأسقف “مِصر” التالي “أنبا يوحنا”. واليوم: نستكمل سيرة ذٰلك البطريرك الذي لم يعرِف سوى الاحتمال والتسامح والغفران.
لم يتوقف أسقف “مِصر” “أنبا يوحنا” عن الوشاية بـ”البابا يوساب” لدى قاضي القضاة الذي كان يتحين كل فرصة للإساءة إلى “البابا يوساب”!! فحدث أنه كان من عادة ملوك “الحبشة” و”النوبة” أن يُرسلوا بعض الشباب من “أفريقيا” إلى بطريرك “الإسكندرية” للعناية بتعليمهم، فكان البابا يهتم بهم ويعلِّمهم في مدرسة بالبطريركية؛ واستغل أسقف “الفسطاط” ذٰلك الأمر وأعلم القاضي بأمر هٰؤلاء الشباب، مدعيًا أنهم ليسوا مَسيحيِّين، متهمًا “البابا يوساب” بأنه يحاول أن يحولهم إلى “المَسيحية”. فما كان من أمر الحاكم إلا أن أرسل على الفور من يصطحب “البابا يوساب” إليه قسرًا وعَنْوةً. وعند حضور البابا، ابتدره القاضي بالتعنيف، متهمًا قداسته بخطف الصبيان والشباب وبضمهم إلى الكنيسة. حاول البابا أن يوضح الأمر للقاضي لٰكنه أمر باستحضار أولٰئك الشباب، ثم هددهم وأجبرهم على تغيير دينهم، وبالضغط والإرهاب اضطُروا إلى تغيير دينهم، فأخذهم القاضي من البابا وقسَّمهم على أعيان “مِصر” ليكونوا لهم خدامًا وعبيدًا!!
إهانات
حدث في السنة الخامسة عشْرة من بطريركة “البابا يوساب” أن تنيح البطريرك “دِيُونِيسيوس” الأنطاكيّ، وسِيمَ من بعده البطريرك “يوحنا” الذي عندما جلس على كرسيّه كتب إلى “البابا يوساب” رسالة بالاتحاد الإيمانيّ والعقيديّ بين كنيستي “الإسكندرية” و”أنطاكية”، وأرسلها مع وفد من “أنبا أثناسيوس” مَِطْران “أفاميا” و”أنبا تِيموثاوُس” مَِطْران “دمَِشق” وبعض الآباء الكهنة، فاستقبلهم “البابا يوساب” استقبالاً حافلاً. وقد كان لقاضي القضاة نائب في “الإسكندرية” أشد قساوة منه، فأشار عليه بعضهم أن يُهين الأب البطريرك أمام المَِطْرانين السوريَّين اللذين حضرا إلى “مِصر” يحملان كتابة بطريركهما “يوحنا”، ظانِّين أن هٰذا يقلل من شأن البابا “يوساب” أمامهما. وهٰكذا أحضر القاضي “البابا يوساب” والمَِطْرانيَن، وأمر بضرب البابا!!! فضربه الجنود ولكموه في رقبته مدة طويلة، وهو مُطْرِق الرأس، رافع قلبه بالصلاة إلى الله، لا تسمع منه سوى عبارات الشكر لله!!! وقد أثار ذٰلك المشهد الذين رأَوه، حتى إنهم ذرفوا الدُّموع لقساوة ما يحدث، متعجبين من عِظم احتمال “البابا يوساب” وصبره، وقال المَِطْرانان: “تبارك الله الذي جعلنا مستحقَّين أن نشاهد جهاد هٰذا الأب!!”. ثم عاد المَِطْرانان إلى بلادهما، وهما يحملان ردًّا من “البابا يوساب” على رسالة بطريرك “أنطاكية”، وأعضاء الوفد يتحدثون عن فضائل ذٰلك الأب البار وقوة احتماله.
ظلم وُلاة
كان في ذٰلك الوقت أن حكم “مِصر” أحد الوُلاة الظالمين، وقد أتى إلى الدار البطريركية بسراريه، وطرد “البابا يوساب” من قلايته، وأخذ يأكل ويشرب ويعبث!!! وأخذ يتهم البابا بكثير من الاتهامات الظالمة، منها أنه يكاتب ملك “الروم” ويُرسِل إليه الأموال لحثه على المجيء إلى “مِصر”؛ وعلى هٰذا أمر باعتقال البابا في موضع ضيّق، وطالبه بدفع الأموال التي كانت ألف دينار ثم استقرت على أربع مئة. وفي تلك الأثناء، مرِض ذٰلك الحاكم الجائر مرضًا شديدًا، لٰكنه استمر في مطالبة “البابا يوساب” بالمال؛ ولم يكَد يستلم المال وأطلق سراح البابا من سَِجنه، إلا وأُعلن خبر موت الحاكم. وقد تنبأ البابا قبل نياحته عن معاقبة قاضي “مِصر” الظالم: فقد حدث أن بلغ خبر ظلمه إلى الخليفة، فقبض عليه، وأخذ أمواله، ثم نفاه إلى “بغداد” حتى مات فيها.
ضيقات المخالفين
كان رجل مُهَرطِق نَسطوريّ يُدعى “لَعازر” مقرَّبًا إلى الخليفة، هٰذا أخذ يحادث الخليفة عن عمارة الكنائس وزينتها، فزيَّن في عقله أن يأمر باستحضار زينتها وأعمدتها الرخام إلى “بغداد” حتى إنه أرسل بالفعل إلى “مِصر” آمرًا والِيَها بتجريد الكنائس من زينتها وبأخذ أعمدتها الرخام!! وكان عند وصول أمر الخليفة إلى “مِصر” أن التف حوله كل الهراطقة الراغبين في تهديم الكنائس القبطية، يرشدونه عما بها من الأعمدة الرخامية، حتى وصلوا إلى “كنيسة الشهيد مار مينا بمريوط” التي بُهت “لَعازر” من جمال منظرها وبديع زينتها؛ ويذكر أحد المؤرخين: “فلما بلغ الخبر البطريرك، تقدم إليه (إلى لَعازر) وقال له: هوذا كل الكنائس أمامك، فافعل بها كما أمرك الخليفة. فقط: أرجو منك أن تحفظ هٰذه الكنيسة. ومهما طلبته مني أُعطيك. فأبى سماع كلامه، وشرع في أخذ الرخام الملون والبلاط النادر من تلك البِيعة.”؛ حزِن “البابا يوساب” كثيرًا، ولٰكنه اهتم فيما بعد بإصلاح الكنيسة حتى أعادها إلى جمالها الأول. أمّا ما حدث فيما بعد لهٰذا الرجل، فقد كان قاسيًا: إذ انتابه مرض شديد، وأصابه الفقر، حتى إنه لم يجِد أحد يلتجئ إليه سوى “البابا يوساب”!! الذي قابل شره بالخير، فقدَّم له المأوى حتى مات.
اهتمام ورعاية
اهتم “البابا يوساب الأول” بوعظ الخطاة لردهم عن طرقهم الشريرة، كما لم يتوقف إلى النفس الأخير عن تثبيت أفراد الشعب في الإيمان المستقيم الذي تسلمه من آبائه، موضحًا لهم ما عسَُِر عليهم فَهمه. وإذ كانت “كنيسة الحبشة والنوبة” في ذٰلك الوقت تابعة للكرسيّ المَرقسيّ، فقد حاول “البابا يوساب” أن يقدم لها اهتمامًا كبيرًا على الرغم من تلك الأتعاب التي كان يتحملها منذ أن سِيم بطريركًا على الكرازة المَرقسية.
صانع سلام
أرسل “البابا يوساب الأول” الرسائل لتفقد أحوال ملوك “النوبة” و”الحبشة” وأمور كنائسهما، إلا أنه لم يتمكن من زيارتها إذ كانت بين مُلوك “الحبشة” ومُلوك “مِصر” حُروب كثيرة فكان يصلي من أجل توقفها؛ وقد أتم له الله ذٰلك الأمر: فقد أرسل الخليفة “المعتصم” رسالة إلى ملك “النوبة” و”الحبشة” ـ وكان يسمى “زكريا” ـ أن يدفع له ضرائب أربع عشْرة سنة، أو هي الحرب! وقد علِم “البابا يوساب” بتلك الرسالة فأرسل إلى “زكريا” الملك ينصحه بالسلام وتجنب الخلافات، فجاء بالرسالة: “… ويجب الآن أن تطلبوا السلامة أن تكون بينكم يا محبي الله، وتصير السلامة في البِيعة من أجلكم.”؛ وحين وصلت الرسالة إلى ملك “النوبة” لم يتمكن من ترك البلاد فأرسل ابنه “جرجس” إلى الخليفة “المعتصم” حاملاً كثيرًا من الهدايا من أجل “البابا يوساب”، وفي أثناء رحلته مر بـ”مِصر” فاستقبله “البابا يوساب” بفرح بالغ ثم ودعه، ليستكمل رحلته إلى “بغداد” حيث التقى الخليفة “المعتصم” الذي … و … وعن “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي …!
الأُُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ