تحدثنا فى المقالة السابقة عن «البابا شنودة الأول» الخامس والخمسين فى بطاركة الكرسىّ المَرقسىّ، وعَلاقته بوالى «مِصر» على الخَُِراج (جامع الضرائب) «ابن المدبر» الذى أرهق المِصريِّين بفرضه ضرائب عليهم وبخاصة الأقباط، وأن «البابا شنودة الأول» كان أول من بنى حصونًا فى الأديرة ليتحصن بها الرهبان من الغارات التى كانت تتعرض لها الأديرة، وأن البابا ظل يرعى شعبه حتى مرِض وتنيح عام 880م. وقد عاصر «البابا شنودة الأول» عددًا من خلفاء الدولة العباسية، فقد رُسم بطريركًا- كما ذكرنا سابقًا- عام 859م فى نهاية حكم الخليفة «المتوكل» (847- 861م)، وتنيح فى أثناء حكم الخليفة «المعتمد». وقد تحدثنا عن الخليفة «المتوكل» ونهاية حكمه بعد قتله.
الخليفة «مُحمد المنتصر» 247- 248هـ (861- 862م)
تولى أمور الحكم والخلافة بعد مقتل أبيه. وقد كان لجنده من الأتراك اليد العليا فى اعتلائه سُدة الحكم؛ لذلك رفع الخليفة «المنتصر» من شأنهم فى الدولة فازدادت قوتهم ونفوذهم وتدخلهم فى شُؤون الدولة كافة. ويذكر المؤرخ أ. د. «حسن خليفة»: «وأخذوا (القواد الأتراك) يُمْلون إرادتهم على الخلفاء فلا يستطيع هؤلاء أن يَعصُوا لهم أمرًا، أو يَنقضوا لهم رأيًا»!! وما إن تولى «المنتصر» أمور الحكم حتى قام بخلع أخويه «المعتز» و«المؤيد» عن ولاية العهد من بعده بحسب مشورة قواده له، فأحضر كل من «المعتز» و«المؤيد» كتابًا يعترف كلاهما فيه بالعجز عن تدبير شُؤون الدولة وبالضعف عن القيام بخلافة المسلمين، ويَحُلان الناس من البَيعة التى كانت فى أعناقهم لهما، ثم توجه الاثنان إلى «المنتصر» فى مجلسه وأخبراه بأمرهما، فيذكر المؤرخ «ابن الأثير» أن «المنتصر» قال لهما، بعد أن سلماه كتابيهما، والأتراك وقوفًا لديه: «أتُرانى خلعتكما طمعًا فى أن أعيش حتى يكبُر ولدى وأبايع له؟ والله ما طَمِعتُ فى ذلك ساعة قط! وإذا لم يكُن لى فى ذلك طمَع، فوالله لأنْ يَلِيها (يتولاها) بنو أبى أحَبّ إلىَّ من أن يَلِيها بنو عمى. ولكن هؤلاء- وأومأ إلى سائر الموالى ممن هو قائم وقاعد- ألحوا علىَّ فى خلعكما، فخفتُ إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة فيأتى عليكما. فما تَرَيانى صانعًا؟ إذن أقتُله؟ فوالله ما تفى دماؤهم كلهم بدم بعضكم. فكانت إجابتهم إلى ما سألوا أسهل علىَّ»، ومن تلك الكلمات التى صرح بها الخليفة «المنتصر» نستشعر مدى ما وصل إليه نُفوذ القواد الأتراك فى التدخل فى أمور الحكم، وفى مناصرة من يرغبون، وفى إبعاد من لا يرغبون عن الحكم.
إلا أن حكم الخليفة «المنتصر» لم يستمر سوى قرابة ستة أشهر، فقد ذُكر أنه لم يعرِف راحة أو سلامًا أو هدوءًا بسبب ما عاناه من آلام لشعوره بالندم الشديد على ما اقترفه من ذنب فى اشتراكه فى قتل أبيه. وهكذا اعتلّت صحته وهاجمته الأمراض التى أفقدته حياته. واختلف المؤرخون فى أسباب موته: فذكر بعضهم أنه مات بمرض «الذبحة الصدرية» فلم يكُن قادرًا على التنفس، وقيل إنه كان لديه ورم فى أمعائه أثّر فى قلبه، وآخرون قالوا إنه مات مسمومًا من أطبائه، وتعددت الروايات فى ذلك الأمر. وفى زمن حكم «المنتصر» القصير، ذُكر أنه كان شجاعًا، عادلًا مع رعيته، سخيًّا، وأنه قد أزال الشدة التى تعرض لها العَلَويون أثناء حكم أبيه، وأعاد بناء ضريح «الحُسَين» وسمح بزيارته، لكنه فى أثناء ولايته على «مِصر» من قبل أبيه كان يكِن كراهية للأقباط- وقد ذكرنا ما صدر من قوانين ضد الأقباط فى تلك الأيام. ويذكر المؤرخ «موير»: «إنه (الخليفة المنتصر) أول من كان قبره ظاهرًا من خلفاء (العباسيِّين).. لأن الخلفاء الذين سبقوه رغِبوا فى أن يُدفنوا فى قبور لا يعرِفها الناس خَشية نبشها». وقد آلت الخلافة من بعده إلى «أبى العباس أحمد المستعين بالله».
الخليفة «أبوالعباس أحمد المستعين بالله» 248- 252هـ (862- 866م)
حدث بعد موت الخليفة «المنتصر» أن اجتمع قواد الأتراك مع الرئاسات العسكرية وكبار رجال الحكم لاختيار من يخلُف «المنتصر». وبعد مناقشات كثيرة، اتفقوا على استبعاد ابنَى «المتوكل» عن الخلافة لئلا تتاح له فرصة الثأر منهم فى مقتل أبيهما، فوقع اختيارهم على أحد أحفاد «المعتصم» وهو «أحمد بن مُحمد بن المعتصم» الملقب بـ«المستعين بالله»، فآلت إليه أمور الحكم والخلافة عام 248هـ (862م). وقد قيل إنه لم يكُن له أمر فى الخلافة سوى مظهرها! فلا رأى له، ولا كلمة!! أما الحكم الحقيقى، فكان لقواده حيث كان يسيّر أموره قائدان هما: «وصيف»، و«بُغا»، حتى إن أحد الشعراء وصفه قائلاً:
وفى أثناء حكم «المستعين»، كان كبير الوزراء القائد «أتامش» مستأثرًا بالحكم وأموال البلاد ما أثار غضب الآخرين، فاجتمعوا عليه بقيادة «وصيف» و«بُغا» وقتلوه مع كاتبه، وأخذوا ما لديه من أموال ومتاع فى داره. ثم استوزر «المستعين» «أبا صالح عبدالله بن مُحمد» الذى فر من «بُغا الصغير» بعد أن غضِب عليه وأراد قتله، ولم يقُم الخليفة بوضع كبير للوزراء، فصار الأمر للقواد الذين تنازعوا وتنافسوا وازدادت المكائد والأحقاد والصراعات بينهم، حتى دبر أحدهم ويدعى «باغَر» محاولة لقتل الخليفة «المستعين» مع رجليه «وصيف» و«بُغا»، لكن الخليفة علِم بالأمر فقام بقتل «باغَر». غضِب أتباع القائد «باغَر» لموت قائدهم، وأثاروا الاضطرابات، حتى إن «المستعين» خشِى الأمر فذهب إلى «بغداد» مع رجليه «وصيف» و«بُغا»، وقد وقعت تلك الأحداث عام 251هـ (865م). ولما علِم الجند بما حدث، ساروا إلى «بغداد» وطلبوا إلى الخليفة «المستعين» العودة إلى «سامَرّا» لكنه رفض، فغضِب الجند واتفقوا على إقامة خليفة آخر بدلاً عنه، فقاموا بإخراج «المعتز» و«المؤيد» من حبسهما، وبايعوا «المعتز» ليكون خليفة لهم، و«المؤيد» وليًّا للعهد، ويذكر «التغرى» عن تلك الأحداث: (… اضطربت أمور «المستعين بالله» بسبب قتله «باغَر» التركى- قاتل «المتوكل»- واضطربت أمراء الأتراك. ثم وُقِّع «أثيرت الوقيعة أو الحرب» بين «المستعين» وبين «الأتراك»، وما زالت الأتراك بـ«المستعين» حتى خلعوه، وأخرجوا «المعتز بن المتوكل» من حجرة صغيرة- كان محبوسًا بها- هو وأخاه «المؤيد إبراهيم بن المتوكل»، وبايعوا «المعتز» بالخلافة.. ومن بعده لأخيه «المؤيد إبراهيم»). وهكذا صار خليفتان: «المستعين» فى «بغداد»، و«المعتز» فى «سامَرّا»، لتبدأ سلسلة من الصراعات و… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ