«مِصر ليست وطنًا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا»، عبّر مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث» فى هذه الكلمات الخالدة عن محبة المِصرىّ المتأصلة لبلاده التى توطنت فى أفكاره ومشاعره، يحملها فى أعماق قلبه أينما ذهب إلى أن يعود إليها. لقد ارتسمت هذه الكلمات ووجدتُها تتردد فى مخيلتى يوم الأربعاء الماضى فى أثناء مشاهدتى الرئيس المِصرىّ «عبدالفتاح السيسى» وهو يفتتح «مشروع حقل ظهر» العملاق الذى يُعد أكبر حقل للغاز الطبيعىّ فى «مِصر» ومِنطَقة البحر المتوسط، والذى أكدت شركة الطاقة الإيطالية «إينى» أنه: «الأكبر على الإطلاق فى البحر المتوسط، وقد يصبح أحد أكبر اكتشافات الغاز فى العالم»!! كذلك يُعد «مشروع حقل ظهر» دعامة قوية لإنتاج الغاز الطبيعىّ فى «مِصر»، وبحسب ما ذكر المسؤولون عن المشروع، فإنه يسهم بمفرده: فى تقديم ما يمثل 50 بالمائة من حاجات المِصريِّين من الغاز مع حلول عام 2019م، وإلى فتح
مشروع «حقل ظُهر»- حسبما ذكر السيد وزير البترول والثروة المعدنية المهندس طارق الملا- يُعد مشروعًا متفردًا فى تحقيق أرقام قياسية جديدة على الصَّعيد المِصرى، فقد استغرق ثمانية وعشرين شهرًا منذ الكشف عنه حتى بَدء تدفق إنتاجه، وهو الأمر الذى يستغرق من ست إلى ثمانى سنوات فيما يختص بالاكتشافات المماثلة فى دُول العالم!! إضافة إلى ذلك، الاستثمارات الهائلة حتى الآن. ودوّت فى أعماقى كلمات: «مِصر بلد الخيرات».
الخيرات وصنع التاريخ
نعم، فمنذ فجر التاريخ و«مِصر» تتمتع بكثير من النعم والبركات التى حباها بها الله من عبقرية المكان وموقعها الجغرافىّ- كما ذكر العالم د. «جمال حمدان»- ومن خيرات كانت على مر التاريخ مطمعًا وحُلمًا للأباطرة العظماء، فتصارعوا على حكمها كى يصنعوا التاريخ، فنجد «نابُليون بونابَرت» القائد والإمبراطور الذى اجتاح العالم بفتوحاته يتحدث عن «مِصر»، وكأنه يناجى ذكريات نُسجت فى خيال سكنت به «مِصر»: «فى (مِصر)، قضَّيتُ أجمل السنوات! ففى «أوروبا»، الغُيوم لا تجعلك تفكر فى المشاريع التى تغير التاريخ، أمّا فى (مِصر)، فإن الذى يحكم بإمكانه أن يغير التاريخ». وكيف لا يكون ذلك، و«مِصر» البلد الذى علَّم العالم معنى الوطن، وقدم له الحضارة إذ رسم له خطواته الأولى فى طريق الحضارات والعلوم؟ فالمِصرى القديم هو أول من عرَف المجتمع والاستقرار، فيكتب الباحث الأمريكىّ «ﭽيمس هنرى بريستيد» عن المِصريِّين قائلاً: «إن هؤلاء المِصريِّين الذين عاشوا فى عصر ما قبل التاريخ… هم وأجدادهم كانوا أقدم مجتمع عظيم على الأرض… على حين أن تغلبهم على المعادن فيما بعد، وتقدمهم فى اختراع أقدم نظام كتابىّ قد جعل فى أيديهم السيطرة على طريق التقدم الطويل نحو الحضارة… حتى أصبحت أول مجتمع عظيم… ففى القرون التى تقع بين 5000 و3500 ق. م، قامت أول دولة متحضرة كبيرة…»، كيف لا، و«مِصر» هى أرض البركات والحكمة والجمال «كجنة الرب»؟!
الخيرات وصنع المستقبل
إلا أن ما حدث بالأمس البعيد على مر التاريخ من حضارة وعلوم وإنجازات، وقف أمامها العالم فى انبهار، عاجزًا عن وصف ما قدمه المِصريُّون محاولاً اللحاق بركب حضارتهم وحكمتهم. وما يحدث اليوم من عمل واكتشافات ومشروعات عملاقة، يقف أمامها أيضًا العالم متعجبًا من قوة الإرادة المِصرية والصلابة والعزيمة فى تحقيق الإنجازات: ففى 6/ 8/ 2015م تُفتتح «قناة السويس الجديدة» بعد عام من إطلاق المشروع، فى الوقت الذى يقول العالم إنه يحتاج إلى ثلاث سنوات!! وبالأمس القريب يفتتح مشروع «حقل ظهر» بعد عامين وأربعة أشهر مقابل ست سنوات فى دُول العالم!!
لم يكُن هذا هو الإنجاز الوحيد الذى قدمه المِصريُّون للعالم بقيادة الرئيس «السيسى»، بل نرى التميز المِصرىّ فى المجال الصحىّ حيث قدمت وَزارة الصحة المِصرية، وبالأخص اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية، إنجازاتها فى التصدى لفيروس الكبد سى، واستطاعت «مِصر» علاج أعداد من المرضى بلغ أضعاف ما عالجه العالم فى فترة وجيزة حتى أصبحت مثلاً يُحتذى به يثنى عليه العالم، فقد ذكرت بروفيسور «مارينا برينجر»، استشارىّ أمراض الكبد بمستشفى جامعة لافى فالنسيا بإسبانيا، أن علاج مرضى الكبد «فيروس سى» فى «مِصر» مذهل، فقد كانت التجربة المِصرية «مذهلة فى تخفيض أسعار أدوية فيروس سى» ما مكَّن من علاج أعداد كبيرة من المرضى.
مسيرة وطن
إن الوطن يُبنى وترتفع هامته وكرامته بيد أبنائه جميعًا، يقول المثل الإسكتلندى: «اجتماع السواعد يبنى الوطن»، لذا، فمسؤولياتنا نحو بلادنا كبيرة، إذ يجب أن تستمر مسيرة الوطن أو بالأحرى نعود إلى مسيرة نحو التقدم والبناء بدأت منذ آلاف السنوات ويجب أن تستمر إلى النهاية. ولن يتحقق ذلك إلا بالعمل والإيمان بما وهب لنا الله من بركات ونعم وقدرات فائقة، قال عنها علماء الحملة الفرنسية فى كتاب «وصف مِصر»: «المِصرىّ خجول بطبعه، وهو يتفادى الخطر بقدر ما يستطيع، لكنه ما إن يجد نفسه فى خطر على الرغم من حَيطته، فإنه يُبدى همة ما كنت تُظن فى البداية أنها لديه…». فعلينا أن نُدرك أن طريق الإنجازات وتحقيق الآمال والأحلام يحتاج إلى:
ـ سواعد جميع أبنائها الممتدة من أجل تعميرها وبنائها، وأولى تلك الخطوات: قيام كل إنسان بعمله المسند إليه، سواء كبير أو صغير، فكل عمل هو مهم ولا يقل أهمية عن سواه من الأعمال إذ هو جزء لا يتجزأ من الإنجاز الكبير وصنع المستقبل، أعجبتنى كلمات قالها أحدهم: «يُبنى الوطن ويشاد بعرق المواطنين وتضحياتهم، بسواعدهم المتشابكة، وعزائمهم المتحدة، بسهرهم الدائب وتعبهم الموصول بإرادتهم التى لا تقهر وإيمانهم الذى لا يضعف ولا يلين».
ـ أن نبدأ بأنفسنا أولًا دون انتظار وترقب للآخرين، يقول الكاتب الروسىّ «ليو تولستُوى»: «الكل يريد تغيير العالم من حوله، لكن لا أحد يفكر فى تغيير نفسه»، فليبدأ كل إنسان منّا بإيقاد شمعة فى طريق العمل من أجل مستقبل «مِصر»، وحينئذ يمتلئ الطريق بالنور فنتحرك بسرعة فى تحقيق الإنجازات.
إن «مِصر» هى البلد الذى عُرف بأبنائه المخلصين، وطن البركات: «مبارك شعبى مِصر»، ملجأ أنبياء الله، البلد الوحيد الذى استقبل «السيد المسيح» وأمه «القديسة مريم العذراء» مع «القديس يوسف النجار»، فـ«مِصر» علامة فارقة فى تاريخ العالم وتظل هكذا بالحفاظ على مسؤولياتنا وواجباتنا تجاهها. و… وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى