تحدثنا فى المقالة السابقة عن انتصار «مُحمد بن سُلَيمان» على الطولونيِّين، وعودته إلى «بغداد» بعد أن قضّى زمنًا كان من أعنف الأزمنة التى مرت بالمِصريِّين، وتولِّى «عيسى بن مُحمد النُّوشَرى» حكم البلاد من قِبل الخليفة «المكتفى»، وبَدء الصراع الذى قاده «مُحمد بن عليّ الخَلَنْجى» لإعادة حكم الدولة الطولونية.
اتجه «الخَلَنْجى» مع رجاله إلى «الرملة» وتملكها بعد انتصاره على الجيش العباسى هناك؛ وازدادت قوته بانضمام كثيرين إليه. تحركت قوات «عيسى النُّوشَرى» إلى «غزة»؛ وعندما تقدم «الخلنجى» لمحاربتها عادت إلى «العريش»، فتتبعها «الخَلَنْجى» إلى هناك حيث انتصر عليها، فعاودت التقهقر إلى «الفرَما» ثم إلى «العباسة». أمّا «مُحمد الخَلَنْجى»، فقد حل برجاله فى «الفرَما».
وصلت أخبار الهزيمة إلى مسامع حاكم «مِصر»: «النُّوشَرى»؛ فجمع جيشًا ضخمًا واتجه إلى «العباسة» حيث بلغته أخبار تقدم «الخَلَنْجى» فتراجع بجنوده إلى «مِصر»؛ ويذكر «ابن التَّغْرى»: «… ونزل على باب مدينة مِصر، فأتاه الخبر بقدوم مُحمد بن على الخَلَنْجى المذكور فدخل إلى المدينة، ثم خرج منها ومعه أبوزُنبور وعدّا جسر مِصر… ثم أحرق عيسى النُّوشَرى جسرى المدينة الشرقى والغربى…». أقام «النُّوشَرى» فى «الجيزة»، وصارت «مصر» من دون حاكم لها؛ فساءت أحوال البلاد جدًّا فى تلك الأيام إذ انتشرت أعمال السرقة والنهب فى البلاد فكتب يقول: «وبقِيت مدينة مِصر بلا والٍ عليها ولا حاكم فيها. وصارت مِصر مأكلة للغوغاء يهجمون (على) البيوت ويأخذون الأموال من غير أن يردهم أحد عن ذلك…».
ومع فِرار «النُّوشَرى» إلى الجيزة، عظمت شوكة «الخَلَنْجى» فدخل «مِصر» دون مقاومة وحكمها؛ ويذكر بعض المؤرخين أن أهل «مِصر» فرِحوا به؛ وقد يعود ذلك إلى كثرة الاضطرابات وافتقاد الأمن آنذاك. واهتم «الخَلَنْجى» بأمر «النُّوشَرى» فأرسل بعض جنوده لاقتفاء أثره، وعندما علِم «النُّوشَريى» بذلك خرج إلى «الإسكندرية» والجنود تتبعه مع قوات أخرى انضمت إلى معاونتهم حتى وصلوا جميعهم إلى «الإسكندرية»، حيث دارت بعض المعارك مع أهل المدينة، لكن قوات «الخَلَنْجى» تمكنت من الدخول، ووقفت فى حرب مع «النُّوشَريى» ورجاله، وأخذ الفريقان يتقاتلان حتى هُزم رجال «الخَلَنْجى» الذى لم يهتم بأمر تلك الهزيمة إلى أن وردت إليه أخبار بإرسال الخليفة «المكتفى» جيشًا من العراق لمساندة «النُّوشَرى» الذى كان قد توجه نحو الصعيد.
بدأ «الخَلَنْجى» فى الإعداد للقتال، وتحرك نحو «العريش» حيث دار قتال عنيف جدًّا بين قواته من جهة وبين الجيش العباسى وجيش «النُّوشَرى» من جهة أخرى. وطالت الحروب، ومعها ازدادت أحوال البلاد سوءًا حتى إن غلاءً عظيمًا ألَمّ بـ«مصر» وكثيرين من أهلها لم يجدوا ما يقتاتون به من كثرة الحروب والفتن!! وقد ظلت الأمور هكذا حتى أدرك «الخَلَنْجى» أنه لا أمل فى انتصاره، فحاول الهرب فى مركب، حاملاً الأموال فلم يتمكن؛ ففر إلى منزل أحد الأشخاص ليختفى فيه، ولكن صاحب المنزل خاف، فأرشد عنه، وقُبض عليه عام ٢٩٣هـ (٩٠٥م) ثم حُمل إلى الخليفة فوبخه، ثم نكل به وقتله. وكان زمن وجوده فى «مِصر» ثمانية أشهر تنقص بضعة أيام.
أمّا عن حكم «الخَلَنْجى» على «مِصر» فى تلك الحقبة، فقد ذكر عنه «ابن التَّغْرى» أنه ملك «مِصر» بالسيف، حاكمًا بظلم جائر، مصادرًا ممتلكات الأعيان؛ فلقِيَ منه الناس الشدائد، ومع ذلك متى كان يحصل على شىء من أحد فإنه كان يكتب له صكًّا بذلك، ثم يرد إليه ما أخذه، وقال: «أفسد أحوال الديار المِصرية وتركها خرابًا يَبابًا (خاليًا لا شيء فيه) من كثرة الفتن والمصادرات».
دخل جيش العباسيِّين «مِصر» وحضر إليه «النُّوشَرى» ليبدأ حكمًا ثانيًا على «مِصر» و… والحديث عن «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى