أيام قليلة وتدق أجراس انتهاء عام وبَدء جديد؛ ومع تلك الدقات تستمر رحلة الحياة حاملةً آمالاً جديدةً فى ساعات وأيام يهبها الله- تبارك اسمه- لخليقته.
وبين النهاية والبداية، لا بد للإنسان أن يتمهل قليلاً كيلا تتشابك الأيام والأعوام، دون أن يعى حكمة وجوده، ويدرك رسالته فى الحياة تمام الإدراك. فكثير من البشر يعتقد أن العام الجديد ما هو إلا احتفالات، وكلمات تتردد حاملة معها مشاعر طيبة، أو تظل حبيسة أحرفها لا تتعدى المجاملات، وبعضهم لا يجد فى العام الجديد سوى مزيد من الألم والتعب والشقاء، وبعضٌ آخر تائه فى معترك الحياة لا يلتفت إلى الزائر الجديد، وفريق ثالث جعل من أيامه صورة واحدة لم يعُد فارق بينها سوى أن ملامحها باتت تتبدل ربما دون أن ينتبه هٰؤلاء لذٰلك. لٰكن فى حقيقة الأمر، العام الجديد يحمل معه رسالة خاصة إلى كل إنسان.
مع كل عام يقدم الله للإنسان فرصة لاستمرار حياته؛ ولذٰلك واجب عليه أن يجعل منها استمرارًا ناميًا له؛ فالحياة تحمل فى أعماقها الحركة والتقدم والتطور، وعلى النقيض يوجد من توقفوا لا يحاولون أى نمو فى حياتهم والذى يشمل نموًا فى عَلاقاتهم بالله، ونموًا فى الأواصر بإخوتهم فى الإنسانية، ونموًا فى ذواتهم.
ومن علامات نمو الإنسان فى عَلاقته بالله أن يرتقى روحيًّا؛ حيث يرى فيه الآخرون سلوكيات تمتلئ بالخير وبالمحبة وبالمودة تجاه كل إنسان؛ فالبشر جميعًا هم خليقة الله التى يرعاها ويقدم لها الخير حتى أولٰئك الذين يرفضونه، ولا يؤمنون به؛ وهٰكذا جدير بكل إنسان يحب الله، ويريد أن يتبعه أن يقدم الخير للجميع كخالقه.
وحين يتَّبع الإنسان المودة والسلام والخير ينمو أيضًا فى عَلاقاته بالآخرين، ويُدرك أن البشر جميعًا أسرة واحدة عليها أن تتماسك، وتتعاون من أجل خير الجميع. وأتوقف عند كلمات طفلة إنجليزية فى الخامسة، عبّرت ببراءة عن رؤية قد يفتقدها الكبار! تقول فى رسالة وجههتها إلى رئيس وُزراء بريطانيا السيدة «تريزا ماى»: «اسمى بروك بلاك، وعمرى خَمْس سنوات. لدىّ بعض الأشياء لأقولها لكِ، يا تريزا ماى: بالأمس، كنتُ فى الشارع وشاهدت مئات الملايين من الناس المشردين؛ كان لا بد أن تكونى هناك. تريزا ماى، كان يجب أن تقدمى لهم (الطعام) البسكويت والسندويتشات والشيكولاتة، أن تبنى لهم بيوتًا. اُنظرى: أنا فى الخامسة من العمر، ولا يوجد لدى شىء يمكننى فعله تجاه هٰذا الأمر! أنا سأوفر أموالى لهم، ولٰكنها لن تكون أبدًا كافية! لٰكن، أنت لديكِ أموال كثيرة، قدِّمى بعضًا منها، وساعدى الناس؛ هٰذا ما يجب عليكِ فعله. لأننا نعيش حروبًا كثيرة فى هٰذا البلد، وأنا لا أحب ذٰلك، يا تريزا ماى، أنا غاضبة جدًّا!!».
إن رسالة تلك الطفلة الغاضبة ليست موجهة اليوم إلى رئيس وزراء بريطانيا، بل هى رسالة على كل إنسان أن يوجهها إلى نفسه، مجيبًا بصدق: ماذا فعلتُ من أجل الآخرين؟!
ربما يكون الآخرون أسرتك، أقرباءك، جيرانك، أصدقاءك، أو حتى الغرباء لا يهم، إنما المهم هو ماذا فعلتَ وماذا قدمتَ.
أيضًا، يجب أن ينمو الإنسان فى عَلاقته بنفسه: أن يفهم ذاته أكثر، دوافعه، آماله وأحلامه، إمكاناته ومواهبه، ما حققه وما يريد أن يحققه؛ أن ينمو فى تداريب على التخلص من عادات لا يرغبها تملكت منه؛ أن يُدرك أنه خُلق من أجل النجاح والحياة لا الفشل والموت.
أتمنى لكم جميعًا عامًا جديدًا تملؤه البركات، ويظلل فيه السلام على حياتنا جميعًا وعلى بلادنا «مِصر» و… والحديث عن «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى