طبيب، قائد، مؤسس بارع، باحث، أستاذ عالميّ، بل مدرسة ذات تراث مميز من الخبرات والكفاءة الفائقة في الإداريات، ذو سلوك دبلوماسيّ خاص جدًّا، يتسم بالحكمة والجَلَد والصبر، يتمتع برؤية واضحة لما يريد أن يُنجز ويحقق، تخطت شهرته بلدته الصغيرة وأمسى رمزًا عالميًّا: أ. د. “فوزي جورجي إسطفانوس”، مؤسس قسم التخدير بمستشفى “كليڤلاند كلينيك”، الراحل عن عالمنا قبل أيام قليلة، بعد رحلة حياة حافلة بالإنجازات العالمية والمِصرية. وُلد “فوزي إسطفانوس” بسوهاج عام ١٩٣٧م، ليكون سابع أشقاء ثمانية. وقبل أن يُتم التاسعة، بدأ في تحمل المسؤولية، بعد أن سافَر اثنان من أشقائه إلى “القاهرة” للدراسة؛ فكان يصطحب والدته لتحصيل إيجار ما تمتلكه الأسرة من أراضٍ. عكف على الدراسة حتى حصَل على الثانوية العامة من “مدرسة فؤاد الثانوية بسوهاج”، بمجموع أهّله للالتحاق بكلية الطب بجامعة عين شمس، وتخرج عام ١٩٦٠م. عمِل بوظيفة متخصص تخدير حتى عام ١٩٦٧م، ثم سافَر إلى “إنجلترا” للعمل بمستشفيات “نيوكاسل” في تخصصه. وعام ١٩٧٠م، حصَل على درجة “الزمالة” في التخدير من الكلية الملكية للجراحين ببريطانيا، ثم قرر السفر إلى “الولايات المتحدة الأمريكية” ليعمل بمستشفى “كليڤلاند كلينيك” في العام نفسه. وفي مستشفى “كليڤلاند كلينيك”، بدأ د. “فوزي” رحلة نجاح عالمية؛ فمنذ توليه العمل بها، عمِل جاهدًا لأجل تأسيس قسم التخدير فصار أحد أعظم أقسام التخدير بـ”الولايات المتحدة الأمريكية”، بل يُعد هو المسؤول عن إنشاء أول قسم تخدير للقلب والصدر في العالم، الذي رأَسه، قبل أن يصير رئيسًا لقسم التخدير وطب العناية المركزة حتى تقاعده. وقد شهِد له جراحون عالميون بأنه مؤسس أول قسم في العالم لتخدير جراحات القلب، بمستشفى “كليڤلاند كلينيك”، كما أنه يُعد أحد المؤسسين لتخدير القلب، و”للجمعية الدُّولية لتخدير القلب” التي رأسها وخدم بها عَقدًا من الزمان. لٰكنه مع كل تلك المسؤوليات الجسام، لم يتوقف عن تقديم علمه للجميع؛ فنشر كتبًا عديدة صُنفت من أهم المراجع العلمية، إلى جانب مئات من الأبحاث العلمية، وكثير من المشاركات في المؤتمرات العلمية. وكان عضوًا بمجلس إدارة مستشفى “كليڤلاند كلينيك”، وممثلاً له، وعضوًا بمجلس إدارة مستشفى “دار الفؤاد” بالقاهرة. أما عن حياة د. “فوزي” الاجتماعية، فقد تزوج السيدة “سميحة”، وأنجب منها ولدين: د. “مارك” طبيب العيون، وأ. “چون” المحامي رجل الأعمال؛ وقد كان أبًا عظيمًا. وقد عُرفت عنه البساطة، والتواضع، والمحبة الشديدة للجميع، والرؤية الثاقبة، وعشق العمل، والإيمان بالعمل الجماعيّ وبقدرة الفريق الواحد على تحقيق الإنجازات، كما عُرف بالسعي دائمًا نحو تطوير أسلوب العمل وتجديده بما يملكه من مهارات قيادية يندر وجودها. وكان ذا وجود متميز والتزام متناهٍ في ما يؤديه من عمل ومسؤوليات ضخمة، كما كانت له قدرة مميزة في إدارة الحوارات والإقناع. وقد دعم د. “فوزي إسطفانوس” عديدًا من الجامعات والمدارس الطبية والمستشفيات بوصفه أستاذًا نشِطًا ومستشارًا. وكان موجهًا وصديقًا لعدة أجيال من الأطباء الشباب في حياتهم المهنية. كان رجل عطاء، يقدم المساعدة والخدمة لكل من يسأل، ولمن يراه محتاجًا المساعدة، لذا تجده يقضّي أوقاتًا طويلة بالكنيسة يتحدث مع الجميع، مثلما كان من الصعب أن تجده يسير بمفرده في طرقات المستشفى، بل يحيط به الأطباء يسألونه ويستشيرونه دائمًا. كذٰلك كان ذا تأثير عظيم في مرضاه وأسرهم والمجتمع عمومًا؛ لقد كانت محبته الشديدة وعنايته بالكل، وإيمانه بوجوب معاملة كل إنسان باحترام وتقدير، أمرًا طبيعيًّا ينبع مع نبضات قلبه، فجعل منه إنسانًا فوق العادة. في إحدى المقالات للأستاذ “جمال الغيطاني”، كتب عن د. “فوزي إسطفانوس”: “رغم انقضاء ما يقارب أربعة عقود أو أكثر على إقامته بـ«أمريكا»، إلا أن ارتباطه الوجدانيّ العميق بـ«مِصر» بدا عميقًا متجددًا”. نعم، ظلت “مِصر” دائمًا في قلب د. “فوزي إسطفانوس” بمشاركاته الدائمة في المؤتمرات الطبية، وبإلقاء المحاضرات بالجامعات المصرية من أجل رفعة التعليم الطبيّ في “مِصر”، وبدوره الكبير في إتاحة الفرص للأطباء المِصريين المتميزين علميًّا للتدريب والتعليم في مستشفى “كليڤلاند كلينيك”، من خلال سعيه لعمل اتفاقيات للتبادل العلميّ بدأت عام ١٩٧٥م بين “كليڤلاند” وعدد من الجامعات المِصرية؛ حيث قُبلت مئات من الأطباء بأقسام التخدير والقلب وجراحة القلب والمسالك البولية. ولا يُنسى له اهتمامه بتاريخ “مِصر” وبالتاريخ القبطيّ، ما جعله يبادر إلى إنشاء “مؤسسة القديس مار مرقس لنشر التراث القبطيّ”، التي نشرت عددًا من كتب التاريخ المهمة، منها: تاريخ الأمة القبطية، وتاريخ الأدب القبطيّ، وحياة “مار مرقس”؛ وإلى جانب ذٰلك تعضيده مركز النشر بالجامعة الأمريكية ليتمكن من نشر بعض الكتب المهمة، وتنظيمه مؤتمرات عالمية عديدة. كذٰلك كان له دور مهم في إنشاء “المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ”، وكان أحد الأعضاء البارزين في مجلس أمناء المركز. رحلة حياة كان أساسها محبة الله من كل القلب، وحب الإنسانية والوطن والكنيسة، فبات أيقونة مِصرية خالصة في العالم. نياحًا لروح د. “فوزي إسطفانوس”، وتعزيات السماء لأسرته وتلامذته ومحبيه؛ كافأه الله على كل أعماله التي عمِلها لمجد اسمه! و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ