يحتفل مَسيحيو الشرق بـ”عيد الغطاس” الذي يطلَق عليه أيضًا “عيد الثيئوفانيا” و”الأَبِيفانيا” أي “الظهور الإلٰهيّ”، وعيد “تكريس المياه”، وعيد “التنوير”، وعيد “العِماد” وعيد “الحَمِيم”، كما تُطلق عليه الكنائس السُِريانية والأرمينية اسم عيد “الدِّنح” الذي يعني: “الظهور والإشراق”.
و”عيد الغطاس” هو أحد الأعياد السيدية الكبرى التي يحتفل بها أقباط مِصر في الحادي عشَر من طوبة (التاسع عشَر من يناير)؛ وهو تَذكار قَبول “السيد المسيح” للمعمودية على يد “يوحنا المَعمَدان” بـ”نهر الأردنّ”؛ فيذكر الكتاب: “وَفِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ ٱلْجَلِيلِ وَٱعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي ٱلْأُرْدُنِّ. وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ ٱلْمَاءِ رَأَى ٱلسَّمَٰوَاتِ قَدِ ٱنْشَقَّتْ، وَٱلرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلاً عَلَيْهِ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَٰوَاتِ: «أَنْتَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ».” ثم ابتدأ “السيد المسيح” يخدُِم بين الشعب. ومن أبرز شخصيات “عيد الغطاس” شخصية “يوحنا المَعمَدان”.
وأطلق على “يوحنا المَعمَدان” لقب “نبي العهدين”؛ إذ شهِد العهدَ القديم قبل مجيء “السيد المسيح”، والعهدَ الجديد بمجيء “السيد المسيح” وخدمته على الأرض. وقد جاءت عنه نبوة “ملاخي النبي”: “هٰأَنَٰذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ ٱلطَّرِيقَ أَمَامِي”، و“هٰأَنَٰذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا ٱلنَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ ٱلرَّبِّ، ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ وَٱلْمَخُوفِ، فَيَرُدُّ قَلْبَ ٱلْآبَاءِ عَلَى ٱلْأَبْنَاءِ، وَقَلْبَ ٱلْأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ …”؛ وهٰذا ما ذكره رئيس الملائكة “جَبرائيل” حين بشر “زكريا الكاهن” بميلاد “يوحنا المَعمَدان” قائلاً: “… وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلٰهِهِمْ. وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ ٱلْآبَاءِ إِلَى ٱلْأَبْنَاءِ، وَٱلْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ ٱلْأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا».”، وقيل عنه من إشَعْياء النبي: “صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: «أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي ٱلْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلٰهِنَا.”، وقد سأل اليهود “يوحنا المَعمَدان” عن شخصيته: “«مَنْ أَنْتَ، لِنُعْطِيَ جَوَابًا لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟» قَالَ: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ ٱلنَّبِيُّ».”.
وقد كان “يوحنا المَعمَدان” عظيمًا أمام الرب، حتى إن السيد المسيح شهِد أنه “لَمْ يَقُمْ بَيْنَ ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ”. ومن حياة ذلك النبيّ العظيم نرى اهتمام الله به حتى قبل ولادته، في بشارة خاصة على فم ملاك إلى والديه “زكريا” و”أليصابات”، معلنًا لهما قدر مكانته: “يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ ٱلرَّبِّ.”، ونلمس عناية الله به منذ ولادته إذ قيل عنه: “أَمَّا ٱلصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ، وَكَانَ فِي ٱلْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ.”. لقد دبر الله كل حاجات الصبيّ “يوحنا” في البرّية، وحفِظه فيها، مدربًا إياه على حياة الزهد والتقشف فيذكر “الكتاب المقدس”: “وَيُوحَنَّا هٰذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ ٱلْإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا.”؛ وهٰكذا صارت له القوة الروحية في القيام بالخدمة المسندة إليه: أن يرد قلوب البشر إلى الله، صائرًا صوتًا صارخًا كارزًا بالتوبة في ظلمة ذٰلك الزمن؛ حتى إن أفراد الشعب خرجوا إليه واعتمدوا منه في نهر الأردن، معترفين بخطاياهم. وقد استمرت خدمة “يوحنا المَعمَدان” ستة أشهر، ثم حين شهِد للحق أمام هيرودس الملك بأنه لا يحل له أن يتزوج امرأة أخيه وهو لا يزال على قيد الحياة استُشهد على يده.
ذإن عظمة حياة “يوحنا المَعمَدان” جاءت من محبة وتبعية لله فقد ذكر القديس أمبروسيوس: “حياتنا لا تقيَّم حسب الزمن، بل حسب درجات الفضيلة. فقد دُعي «يوحنا» عظيمًا، لا بسبب قوَّته الجسدية، بل الروحية؛ فإنه لم يقهر إمبراطوريات، ولا وضع في منهجه أن تكون له غنائم ونصرات، بل تطلَّع إلى ما هو أفضل جدًّا، إذ كان الصوت الصارخ في البرّية الذي صرع الملذات الجسدية وتراخي الجسد بسمو روحه وقوَّتها. كان صغيرًا في الأمور العالمية، عظيمًا في الروحيات. أخيرًا فإن سر عظمته هو عدم سيطرة حب هذه الحياة الزمنية عليه، الأمر الذي لم يُعِقه عن إدانة الخطيّة.”.
كل عام وجميعكم بخير وسلام، مصلين إلى الله أن يحفظ “مصر” من كل شر، ويرفع عن العالم الوباء. و… والحديث في “مصر عن الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ