تحدثت المقالة السابقة عن مدينة “القدس” في عهد السلطان “عبد المجيد الأول”، و”حرب القِرِم” التي انتهت بتوقيع “اتفاقية باريس” وهزيمة الروس، ثم حكم السلطان “عبد العزيز” وإصلاحاته، وتحوُّل المدينة أيامه إلى ولاية مستقلة الحكم. وكانت الإشارة إلى زمن حكم السلطان “عبد الحميد الثاني” (١٨٧٦-١٩٠٩م) الذي شهد إقرار دستور البلاد وافتتاح “مجلس المبعوثان” (مجلس البرلمان)؛ ورفض السلطان “عبد الحميد الثاني” هجرة اليهود إلى “فلسطين” وشراءهم أيٍّ من أراضيها.
وفي تلك الأثناء، عمِل الكاتب النمساويّ المجريّ الناشط السياسيّ “ثيودور هرتزل”، مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة، المعروف بـ”أبي دولة إسرائيل”، على حفز اليهود إلى الهجرة صوب “فلسطين”، في مساعٍ لا تهدأ من أجل تكوين دولة يهودية؛ وفي مساعيه تمكن سنة ١٨٩٦م من الوصول إلى “إسطنبول” عاصمة الإمبراطورية العثمانية، حيث التقى بوصفه صحفيًّا عددًا من الشخصيات الرفيعة المستوى، وعلى رأسها “الصدر الأعظم” (أعلى منصب تحت السلطان العثمانيّ، له سلطة مطلقة، ويحمل ختم السلطنة، ويعيّنه أو يعزله السلطان العثماني فقط)، حيث قدم اقتراحًا أن يدفع اليهود الدين الخارجيّ للدولة العثمانية مقابل إقامة وطن لهم تحت حكمها. وفي سنة ١٩٠١م، تمكن “هرتزل” من لقاء السلطان العثماني “عبد الحميد الثاني” لكنه رفض عرضه. وقد عُرض ملف وثائق القضية الفلسطينية في رسالة “هرتزل” إلى السلطان “عبد الحميد الثاني” سنة ١٨٩٦م، جاء فيها: “ترغب جماعتنا في عرض قرض متدرج من عشرين مليون جنيه استرليني، يقوم على الضريبة التي يدفعها اليهود المستعمرون في «فلسطين» إلى جلالته، تبلغ هذه الضريبة التي تضمنها جماعتنا مئة ألف جنيه استرليني في السنة الأولى، وتزداد إلى مليون جنيه استرليني سنويًّا. ويتعلق هذا النمو التدريجي في الضريبة على هجرة اليهود التدريجية إلى «فلسطين». أما سير العمل المفصل فيوضع في اجتماعات شخصية تعقد في «القسطنطينية»؛ مقابل ذلك يهب جلالته الامتيازات التالية: الهجرة اليهودية إلى «فلسطين»، التي ليست فقط تكون غير محدودة، بل أيضًا تشجعها الحكومة السلطانية بكل وسيلة ممكنة. ويعطَى المهاجرون اليهود الاستقلال الذاتيّ المضمون في القانون الدوليّ: في الدستور والحكومة وإدارة العدل في الأرض التي تقرَّر لهم.
ويجب أن يقرَّر، في مفاوضات القسطنطينية، الشكل المفصل الذي ستمارس به حماية السلطان في «فلسطين» اليهودية، وكيف سيحفظ اليهود أنفسهم النظام والقانون بوساطة قوات الأمن الخاصة بهم. قد يأخذ الاتفاق الشكل التالي: يصدر جلالته دعوة كريمة إلى اليهود للعودة إلى أرض آبائهم؛ سيكون لهٰذه الدعوة قوة القانون وتبلَّغ الدول بها مسبقًا”. وقد خُلع السلطان “عبد الحميد الثاني” بعد حدوث انقلاب بالبلاد.
وقد شهِد عهد “عبد الحميد الثاني” بَدء المذابح الأرمينية ( ١٨٩٤-١٨٩٦م) من مجازر وقتل مئات آلاف من الأرمن، وأيضًا اليونانيين والأشوريين. وفي سنة ١٩٠٩م، تكررت المجازر في”قيليقية” حيث شمَِلت “مجزرة أضنة” التي راح ضحيتها قُرابة ٣٠ ألفًا من الأرمن. إلا أن أصعب مذابح الأرمن كانت في أثناء الحرب العالمية الأولى؛ تعرضوا لإبادة بشرية جماعية بعد قتل وتشريد، في أحد أضخم المجازر البشرية التي عرَفها التاريخ مع بداية القرن العشرين، وتُعد هي الثانية بعد أشهر قضايا المذابح المعروفة بـ”هولوكست” وكانت في عهد السلطان “محمد رشاد الخامس” (١٩٠٩-١٩١٨م). وقد قدّر الباحثون أعداد الضحايا الأرمن ما بين المليون والمليون ونصف المليون!!! وفي عهد “محمد رشاد الخامس”، تمكن القائد البريطاني Edmund Henry Hynman Allenby من الاستيلاء على مدينة “القدس”، عقب معركة حامية الوطيس مع القوات العثمانية التي كانت تحميها؛ وبذٰلك خرجت “القدس” من الحكم العثماني سنة ١٩١٧م بعد أن ظلت تحته أربعة قرون (١٥١٧-١٩١٧م).
و.. وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسي