تحدثت مقالة سابقة عن مدينة “القدس”، ورفض السلطان “عبد الحميد الثاني” هجرة اليهود إلى “فلسطين” وشراءهم أيٍّ من أراضيها، مع مساعي “ثيودور هرتزل”، مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة، وخُلع السلطان “عبد الحميد الثاني” نتيجة انقلاب بالبلاد. ثم أشارت المقالة إلى المذابح الأرمينية التي تُعد من أشهر قضايا المذابح في عهد السلطان “محمد رشاد الخامس”، ثم خروج “القدس” من تحت الحكم العثماني سنة ١٩١٧م بعد أربعة قرون (١٥١٧-١٩١٧م).
وبعد أن تمكن القائد البريطاني Edmund Allenby من الاستيلاء على مدينة “القدس”، ظلت المدينة تحت الحكم البريطاني قرابة ثلاثة عقود من الزمان وهو ما كان له أثر كبير في تاريخ البلاد، إذ أنهَواعلاقة فلسطين بالدولة العثمانية نهاية تامة، ومهدوا لقيام الدولة الصهيونية بـ”فلسطين”. فقد كان لبريطانيا دور كبير آنذاك في القضاء على قوى الشرق؛ بعد أن تصدت بقوة لزحف “مُحمد علي” الذي رغب التوسع، وأرغمته على قبول معاهدة لندن سنة ١٨٤٠م: التي كان طرفاها “بريطانيا” و”النمسا” و”بروسيا” و”روسيا” من جانب، والدولة العثمانية من جانب آخر؛ وذلك بعد انهزام العثمانيين والجيش المِصريّ في عهد “مُحمد علي” أمامهم في معركة “نافارين” البحرية. وهدفت المعاهدة إلى الحد من توسعات “مُحمد علي باشا” حاكم “مِصر” على حساب أراضي الدولة العثمانية، وإلى تقليص صلاحياته. لقد هدفت تلك الدول إلى إضعاف الإمبراطورية العثمانية والحيلولة دون إيجاد قوة أخرى تمثلت في “مُحمد علي” حاكم “مِصر”. وقضت المعاهدة ببقاء “مِصر” وحدها تحت سلطة “مُحمد علي” وأبنائه من بعده.
وفي مواجهة بريطانيا، حاولت الدولة العثمانية التحالف مع قوى أورُبية أخرى، فوجدت في ألمانيا حليفًا قويًّا؛ وتوثقت العلاقات العثمانية الألمانية حتى زار الإمبراطور الألماني WilhelmII (١٨٨٨-١٩١٨م) “القدس” و”الأستانة” سنة ١٨٩٨م؛وتحالفت بريطانيا وفرنسا معًا لمواجهة ذلك التحالف. وهٰكذا اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨م) بين “قوات الحلفاء” (الوفاق الثلاثيّ) “بريطانيا العظمى”و”أيرلندا” و”الجمهورية الفرنسية الثالثة” و”الإمبراطورية الروسية”، وبين “دول المركز” “الإمبراطورية الألمانية” و”الإمبراطورية النمساوية المجرية” و”الدولة العثمانية” و”مملكة بلغاريا”. وقد انضمت “إيطاليا” و”اليابان” و”الولايات المتحدة الأمريكية” إلى الحلفاء؛ وكان النصر من نصيبهم، واستسلمت الدولة العثمانية للهزيمة سنة ١٩١٨م. وقرر المجلس الأعلى لمؤتمر الصلح سنة ١٩١٩م عدم إعادة المقاطعات العربية ـ ومنها “فلسطين” ـ إلى الحكم العثمانيّ. وفي سنة١٩٢٠م وُقِّعت معاهدة “سِيڤر” التي نزعت “القدس” تمامًا من تحت الحكم العثمانيّ.
أما مدينة “القدس” في ذٰلك الزمان،فبادئ الأمر ظلت قابعة بين جنبات أسوارها لا عَلاقة لها بما يجري في العالم، لكن مع الصراعات وتطاحن الدُّول لأجل التوسعات والبحث عن مزيد من القوى، هبت مدينة السلام تتواصل بالعالم الخارجيّ تواصلاًكان له أثر كبير فيها، وبدأت ملامح التغيير تعتريها: ففي سنة ١٨٣٨م أقيمت بها القنصلية الإنجليزية، ثم توالت قنصليات “فرنسا” و”روسيا” و”النمسا” و”بروسيا” و”إسبانيا” و”الولايات المتحدة الأمريكية” وغيرها، وأخذت تواصلها الدُّوليّ يمتد على المستويات الثقافية والتجارية والدينية، ودخلها التلغراف سنة ١٨٦٥م، ثم رُبطت بـ”يافا” عن طريق خطوط السكك الحديدسنة ١٨٩٢م. وفي تلك الأثناء، قصد “القدس” عددمن اليهود في العالم. وقد أشير إلى الدعم الخارجيّ الذي كان يقدَّم إلى اليهود، ففي كتاب “أرض الذكريات”: رحلة د. لورتيه،عميد كلية الطب بفرنسا سنة ١٨٧٥م، إلى منطقة “سوريا” (المشتملة حاليًّا على أطراف “تركيا” و”سوريا” و”لبنان” و”فلسطين” و”الأردن”)،التي امتدت خمس سنوات، يقول عن حارة اليهود بـ”القدس”، التي تضم يهودًا من بلاد كثيرة جدًّا من العالم: “الأحياء والبيوت التي يعيش فيها اليهود تدل على فقرهم، وعلى ظروفهم الاجتماعية السيئة. لذٰلك ومنذ سنوات، تُبذل جهود كبيرة لتحسين هذه الأوضاع، وذٰلك من خلال تخصيص مبالغ كبيرة تصرفها شركات مالية قائمة في «باريس» و«لندن» و«ڤيينا»، لتمويل مشاريع مختلفة منها إقامة مستوطنات جديدة لليهود، لا سيما في المناطق التي لا يسكنها سوى البدو الرُّحَّل. والسلطات العثمانية ستكسب بضعة ملايين لقاء التعاون والتغاضي”.
و.. وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسي