“اُذكر باستمرار أنك غريب على الأرض، وأنك راجع إلى وطنك السماوي”؛ كلمات لمثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث”، البطريرك السابع عشَر بعد المئة فى بطاركة الكرازة المَرقسية، الذى احتفلنا بذكرى نياحته قبل أيام قليلة. توقفت عند ه?ذه الكلمات كثيرًا، فإذا هى سر عظمة كثيرين وانتصارهم! كما أن الابتعاد عنها سبب كسر آخرين وهزيمتهم! فحين يشعر الإنسان أنه غريب عن الأرض، تختلف نظرته فى الأمور، فيشعر بضآلة هذا العالم الذى سوف ينتهى يومًا ما، فلا ينجذب إليه فى دائرة صراعاته وإغراءاته، بل يجذب هو العالم إليه فى دائرة محبته وعطائه. وبذلك تكون الأشياء الثمينة التى يسعى لاقتنائها مرتبطة بوطنه لا برحلته، وما هى قوانين السماء إلا المحبة والعدل والرحمة بكل إنسان! فى الغربة، يختلف تقييم الإنسان للمواقف التى تمر به، وأيضًا للبشر، فتختلف رُدود أفعاله تجاههم، فالأذكياء هم من يُدركون أنه لا مجال للتصارع، إن كنا نسير الطريق نفسه، بقدر ما يكون التكاتف ضرورة قصوى كى نحيا بأسلوب أعمق وأفضل؛ فإن الأيدى الممتدة من أجل تشديد بعضها بعضًا تكون أكثر قوة من تلك التى تنصب الشراك للآخرين. كذلك فإن تحطيم الآخر لن يؤول إلا إلى الكسر والدمار للإنسانية بأسرها، إذ رحلتنا واحدة وطريقنا واحد. أيضًا حين يُدرك صاحب رحلة الحياة أنها لا تتعدى كونها رحلة سوف تنتهى يومًا ما، تختلف أهدافه فيها، فلا ينشغل بما لا يُفيد، أو بوضع كل ما لديه لإقامة منزل له يحيا فيه فى أرض غربته، إنما يحرِص على جمع ما يستطيع حمله معه من ثرَوات تؤمِّن له حياة كريمة فى وطنه. وفى السماء، لا يقيَّم البشر بما يملِكون من مال أو علم أو مركز أو مواهب، إنما تتوقف مكانة كل شخص فيها على ما قدَّمه من أعمال وخير على الأرض، مستخدمًا فيها ما لديه من مال وعلم وإمكانات صحبته فى رحلته الأرضية. كذلك تختلف نظرة الإنسان المسافر إلى وطنه السمائى تجاه الألم، فتكون آلام رحلته الأرضية وأتعابها هى أمور زمنية مؤقتة، سوف يعبرها وتنتهى يومًا ما عندما يعود إلى ذلك الوطن؛ ومن هنا تزداد قدرته على الاحتمال والصبر، إذ إن لكل رحلة نهاية. وفى الوقت نفسه، تختلف رؤيته نحو السعادة والفرح فتكون الأمور التى تُسعده هى ما ترتبط بوطنه الذى سيعود إليه يومًا ما، مدركًا أن مباهج الرحلة هى مؤقتة لن تدوم طويلاً. إنها ليست دعوة لترك العالم والانعزال عنه، بل للعيش فيه بأكثر حرية وسعادة؛ وهكذا كانت رحلة المتنيح “البابا شنودة الثالث”: عاش فى العالم ولكن لم يحى فيه العالم. وجاءت كلمات قصيدته “سائحًا” لتعبر عن تلك الحرية التى تنطلق بها النفس فى تلك الرحلة: سَائِحًا أَجْتَازُ فِى الصَّحَرَاءِ مِنْ قَفْـــــــــرٍ لِقَفْـــــــــــرِ لَيْسَ لِى دَيْرٌ فَكُلُّ الْبِيْدِ وَالْآكَــــــــــامِ دَيْــــــــرِى لَا وَلَا سُـــــورٌ فَلَنْ يَرْتَـــــاحَ لِلْأَسْــــــــــــوَارِ فِكْــــــرِى أَنَا طَيْـــرٌ هَـــائِمٌ فِى الْجَـوِّ لَمْ أُشْغَــــــفْ بِوَكْــــــــرِ أَنَا فِى الدُّنْيَــــــا طَلِيـــــــقٌ فِى إِقَامَتِــــى وَسَيْــــــــرِي أَنَا حُـــــرٌّ حِيــنَ أَغْـــــــــفُو حِينَ أَمْشِى حِينَ أَجْــرِى
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسيّ