تحدثنا في المقالة السابقة عن الخير الذي “لا يموت”، حتي إن غاب صاحبه يظل منتشرًا بين البشر، والأهم أنه يتحدث عن هٰذا الإنسان أمام الله. ربما لا نستطيع ذات يوم أن نذكر ما قدمناه إلي الآخرين، ولٰكن الخير له صوت يعلو ممهدًا الطريق أمام صاحبه.
واليوم أتحدث عن الخير الذي تكمُن فيه قوة تغيير البشر، وإن أصروا علي مواقفهم. أتذكر إحدي القِصص التي نُشرت في إحدي المجلات العالمية، وكانت تتحدث عن أحد الضباط الذين اتصفوا بالعنف نحو الجنود. وفي أحد الأيام، قام بصفع جنديّ لإنقاذه أحد زملائه الجنود من بين صفوف العدو بعد سقوطه جريحًا إذ احتسب القائد عمله أنه جسارة واندفاع ومخالفة للأوامر. شعَر الجنديّ بالحزن والإهانة الشديدة، ولم يجد سوي كلمات قليلة رددها علي قائده: سأجعلك تتراجع عن موقفك وإهانتك هٰذه يومًا ما! ثم غادر.
مرت الأيام، ليخرج الضابط في إحدي المهام العسكرية، واشتبك مع العدُوّ الذي تصدي للعملية العسكرية بشدة حتي تمكن من عزل القائد عن جنوده بعد إصابته بجروح، ليقع بين أيدي العدُوّ الذي حاصره من كل جهة. وإذا أحد الجنود يتقدم ببسالة وشجاعة ويشق صفوف العدو ليصل إلي الضابط الجريح لينقذه. وما إن وقعت عينا الجندي علي الضابط حتي عرفه علي الفور؛ فهو قد تلقي منه صفعة وإهانة ذات يوم. ابتسم الجنديّ للجريح مشجعًا إياه وسنده بذراع ودافع عنه بالأخري. وحين رأي الضابط شجاعة الجنديّ، بدأ في التشدد والاشتراك في الدفاع عن أنفسهما حتي استطاعا بمعونة الله أن ينجحا في اختراق صفوف العدُوّ والنجاة. وبعد عودتهما إلي وِحدتهما العسكرية، نظر الضابط بمحبة وعرفان يكسوهما خجل شديد إلي الجنديّ وسأله: كيف يمكنني أن أرد إليك كرامتك التي أهنتُها يومًا ما؟! أجاب الجنديّ وابتسامة عميقة ملؤها المحبة تعلو وجهه: لقد أخبرتُك أنني سأجعلك تتراجع عن هٰذا، وها قد فعلتُ!! وصارا صديقين، وقد عُرف عن هٰذا الضابط فيما بعد كثرة محبته وتشجيعه حتي أحبه الجميع.
إن الخير الذي تقدمه إلي كل إنسان أقوي محرك للمشاعر الإنسانية وأعظم مغيِّر للشخص. أسرِع إلي عمل الخير لا لكي تربح صديقًا فقط، بل لتستطيع أن تساهم في تغيير العالم من حولك. يقولون: “لكي يمكنك أن تغيِّر العالم، ابدأ بشخص واحد تغيِّره: هو أنت!”. وبدلًا من أن نلعن الظلام فلنتقدم بإضاءة شمعة. فالخير أعظم ضوء عرَفته البشرية، ولا عجب أن تتردد أصداؤه في جميع مسالك الحياة وطرقها.
وبينما أنت تفعل الخير، لا تدَعه يتأثر بطبائع من حولك، بل دعهم يتعلمون منك أن يتغيروا ويقدموا الخير. قَص عليَّ أحد الأشخاص تجرِبة له في العمل مع أحد زملائه الذي كان لا يرد تحية الصباح عليه. ونصحه باقي الزملاء أن يتوقف عن إلقاء التحية، فكانت إجابته: لقد تعلمتُ أن أقدم الخير إلي الجميع لا لأعمالهم، ولن أغيِّر الخير الذي تعلمتَه! وأصر علي إلقاء التحية كلما التقي زميله هٰذا في الطرقات أو أحد المكاتب. وفي أحد الأيام، عرَف هٰذا الشخص أن زميله تعرض لمشكلة كبيرة في العمل كادت أن تؤدي إلي فصله. فأسرع بمساعدته حتي اجتاز أزمته، وهنا لم يجد هٰذا الزميل كلمات اعتذار يقدمها! ولٰكنّ الأهم أنه أصبح إنسانًا مختلفًا ومحبًا للجميع؛ لقد تغيَّر حقًا بسبب ما قُدم إليه من خير.
أسرع بالخير إلي الجميع دون أن يُطلب منك. يقول المتنيح قداسة البابا شنوده الثالث: “الخير باستمرار يمتد إلي قدام، يتحرك نحو الله ونحو الناس. فهو لا ينتظر حتي يجيء الناس إليه ويخطبون وده، بل هو الذي يتحرك إليهم دون أن يطلبوه.”. إن الشمعة تخترق الظلام بضوئها دون أن يُطلب منها الإضاءة! وللحديث بقية..