تحدثنا عن مدرسة الألم وما تعلمه للإنسان في مسيرة حياته، وعن رغبة البشر في السعى نحو الراحة التي ربما يحققون بعضـًا منها، وقد لا يحققون. إلا أن هناك سعيـًا دائمـًا من الإنسان في الاتجاه نحو تحقيق ما ينشُده من راحة. ولٰكن يجب أن ندرك أن الحياة لا تحمل في أيامها راحة كاملة لأيّ إنسان، وأن الراحة الكاملة إنما هي تتحقق في السماء.
ويُعد مفهوم الراحة مسألة نسبية بين الأشخاص؛ فهناك من يسعى طَوال حياته لإدراك الراحة في مستقبل أيامه، وهناك من يعيشها في حاضره. وهنا أتذكر قصة أحد الأغنياء الذي قرر الذهاب للصيد مع أحد أصدقائه في أثناء قضاء عطلتهما الترفيهية. فإذا هو يجد أحد الصيادين، والفقر بادٍ عليه، قد اصطاد بضع سمكات كبيرة ووضعها في كيس، ونهض مغادرًا المكان. فقال الغنيّ: إنني أتعجب من شأن هٰذا الرجل! فقد غادر الشاطئ بعد أن اصطاد سمكات قليلة؛ وقد كان بإمكانه العمل زمنـًا أطول لاصطياد مزيد من الأسماك. فأجاب الصديق: لقد أدى عمله الذي اعتاد عليه يوميـًّا، واكتفى بما حصل عليه. قال الغنيّ: كان يمكنه تحقيق مزيد من الصيد، ومن ثم زيادة أمواله فيصبح مالكـًا لأسطول بحريّ يَدُِر عليه الأموال ويصير ثريـًّا، وهٰكذا يستطيع أن يستمتع بحياته مع زوجته وأولاده! أجاب الصديق: يا صديقي العزيز، إنه يستمتع بحياته الآن، ويشعر بالراحة التي يُريدها.
وهنا نجد أن مفهوم الراحة يختلف بين البشر. إلا أن الحياة لا تسير هٰكذا، فهي تمتلئ بالأتعاب والضيقات والمواقف المفاجئة التي على كل شخص أن يكون لديه فيها الاستعداد للعمل.
منطقة الراحة
في حياة كل إنسان “منطقة راحة” وهي تعني: الحالة التي يتصرف فيها الإنسان ويتحدث، دون شعور بالتوتر أو الخجل أو الضيق. إنها حياة الإنسان دون تغييرات أو مسؤوليات جديدة، ويكون فيها الضغط النفسيّ الذي يتعرض له الإنسان أقل ما يمكن. والإنسان في هٰذه الحالة يحتاج إلى استخدام طاقاته على نحو محدود، يؤدي ما اعتاد عليه من أعمال دون شعور بالخطر يجتاحه.
الخروج من منطقة الراحة
وحياة الإنسان في ظل منطقة الراحة تتأثر سلبـًا، إذ لا تتيح له استخدام إمكاناته وطاقاته الحقيقية الموهوبة له من الله كاملـًا؛ فمع الألم والضغوط التي يتعرض لها كل شخص، يبدأ في التفكير في أسلوب الخروج من الأزمة، ومن دائرة التفكير النمطية التي اعتاد عليها إلى الابتكار؛ فلا شيء يخرج طاقات الإنسان الكامنة إلا العمل على اجتياز تحديات الحياة والتغلب عليها.
واستمرار الإنسان في منطقة الراحة يجعله متوقفـًا عند نقطة واحدة في الحياة لا يتخطاها. يقول المثل الصينيّ: “لا تخَف من التقدم ببطء، ولٰكن خَف من وقوفك في المكان نفسه.”. إن توقف الإنسان عند نقطة واحدة لا يبتعد عنها هو دليل عدم نموه بل عدم الحياة عمومـًا! لأن الحياة التي لا تتسم بالتغير والتحرك والنمو لا تستحق أن تُدعى حياة. أيضـًا من يتوقف عند نقطة لا يتعداها، حتمـًا مع مرور الزمن سيتراجع إلى الخلف.
ويسري هٰذا المفهوم أيضـًا على حياة الإنسان الروحية؛ فالإنسان الذي يتوقف عند اكتساب فضيلة معينة ولا يحاول النمو فيها، يجدها مع الأيام تتناقص إلى أن تختفي من حياته. إن في جِلسة قصيرة مع النفس، يمكن الإنسان أن يقيّم حياته وأساليبه ليدرك كم من أعمال بدأها ولم يُتمها، وكم من طرق تمنى أن يسلكها ويحقق فيها نجاحات، ولم تتعدَّ إنجازاته أمنيات اختفت وتلاشت! فلا تدَع حياتك تمضي في أحلام وأمنيات مقصورة على إمكانات قليلة، في حين أنك تحمل في أعماقك قوًى هائلة من الله!!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ