تحدثنا في المقالة السابقة عن ثلاثة أباطرة جلسوا على عرش روما في عام واحد ـ 193م، وهم: “برتيناكُس قيصر”، و”ديديوس يوليانوس قيصر”، و”سفروس قيصر” الطاغية الذي قُتل أثناء حربه ضد الإنجليز؛ فتولى الحكم من بعده ابنه “كراكلا قيصر” الذي قد عانت مِصر في أيامه الشدائد الكثيرة بعد قتله أعدادًا كثيرة جدًا من أهل الإسكندرية دون شفقة أو رحمة، حاكمًا البلاد سنين وُصفت بذل الدولة الرومانية وانحطاطها. إلا أن جنوده قتلوه، وحكم روما من بعده “أوبليوس مقرينيوس قيصر”.
“أوبليوس مقرينيوس قيصر” (217 – 218م)
وُلد “أوبليوس” بالجزائر، وكانت أذنه مثقوبة لذٰلك أُطلق عليه اسم “مقرينيوس” الذي جاء من كلمة “مقرين” التي تعني في المغرب “مثقوب الأذن”. يُعد أول إمبراطور روماني يحكم روما من خارج طبقة مجلس الشيوخ، إلا أن انتماءه إلى عائلة من الفرسان جعله يتقرب إلى الطبقة السياسية في روما.
عمِل بالمحاماة وكان ذكيًا، ماهرًا؛ فشق طريقه إلى الديوان الملكيّ وصار من الشخصيات الهامة في أثناء فترة حكم الإمبراطور “سفروس قيصر”. ولاهتمامه بالعلوم والمعارف برز كخطيب مفوه فانتُدب في المحاكم وترقى إلى المناصب العليا في زمن يسير حتى صار قاضيًا. وفي أيام “كراكلا قيصر”؛ اتخذه القيصر أميرًا ورئيسًا للجيوش الرومانية، ثم تبوَّأ أعلى المناصب فصار أميرًا على جند الحرس الخصوصيّ مما مكنه من إثارة الجند على القيصر وقتله.
فقد قيل إنه في يوم مقتل “كراكلا” هو الذي قام بإغراء الجنود على قتله. وكان سبب ذٰلك قول أحد العرافين له أنه سيأتي اليوم الذي يكون فيه ملكًا على جميع الرومان؛ ما جعله يسعى لقتل الملك عندما سنحت له الفرصة، وهٰكذا صار قيصرًٍا لروما بعد مقتل سلفه “كراكلا”.
إلا أنه لم يلبَث طويلاً في حكم روما حيث قام ضده فريق من الجنود، فحاول استمالتهم إليه لٰكنه فشِل في ذٰلك. وقد كتب عن حُكمه المؤرخون أنه كان متسلطًا، قاسيًا، شديدًا حتى أثقل كاهلَ الشعب الذي حينما اشتكى آلامه لم يَزِده هٰذا إلا قسوة القيصر عليه.
وفي أثناء فترة حكمه حارب ملك الفرس، إلا أنه هُزم هزيمتين متتاليتين خسَر فيهما عددًا ضخمًا من جنوده؛ فلجأ إلى الصلح مع ملك فارس الذي فرض على قيصر روما دفع مبلغ كبير له؛ فقبِِل “أوبليوس” هٰذه المهانة؛ إلا أن الشعب غضِب ناقمًا عليه بشدة متهمًا إياه بالجُبن والضعف والخيانة.
ولم يقف عند هٰذا الحد، بل قام بتغيير قوانين الملكية والعسكرية مستخدمًا الشدة في اختيار مجندي الجيش؛ فبغَضوه، وقرروا تحيُّن الفرصة للتخلص منه. وجاءت الفرصة مواتية عندما ذهبت فرقة جنود رومانية إلى حِمْص وأقامت مدة هناك؛ حيث مالت قلوب الجنود إلى شخص يُدعى “بسيانوس”.
كان “بسيانوس” أحد كهنة هيكل الشمس معبودِ أهل حِمْص آنذاك. وكان في سن الثالثة عشرة، حَسَن الصورة وسيمًا حتى إنهم شبَّهوه بالقمر المنير من شدة وسامته! وكان مجهول الأب؛ فسُمِّيَ “بسيانوس هيلوغياله” أيِ “الشمس”؛ ما اشتُهر به في كتب التاريخ. إلا أن جَدته ـ وهي أيضًا أخت زوجة “كراكلا” ـ ادّعت أن “بسيانوس” هو ابن “كراكلا قيصر” لتستميل الجنود إليه فيُنادون به ملكًا على روما. وما إن شعَرت أن قلوب الجند مالت إليه حتى أخذته إلى معسكرهم، وطلبت منهم مبايعته قيصرًا حيث إنه ابن “كراكلا”! وبالفعل بايعوه ولقبوه “أُغسطُس”. وعندما أدرك “أوبليوس” ما يحدث، أخذ جيوشه لمقاتلة “أُغسطُس”؛ وهٰكذا استمرا في حروب ضارية حتى كلَّت عزيمة “أوبليوس” وخافت جيوشه فهرب هو وأصحابه. فتبِعه “أُغسطُس” وجنوده وقتلوه هو وأصحابه بعد أن حكم روما عامًا واحدًا فقط؛ ليُصبح “أُغسطس بسيانوس هيلوغياله” قيصرًا لروما.
“بسيانوس هيلوغياله قيصر” (218 – 222م)
بعد إعلانه قيصرًا في حِمْص، أقَرّ ذٰلك باقي الجيوش ثم مجلس روما. وما إن صار حاكمًا لروما حتى قرر التخلص من أقرباء “أوبليوس” وجميع مؤيديه؛ فأمر بقتلهم. وهٰكذا جمع المُلك إلى الكهنوت؛ فهو لم يتنازل عن رئاسة هيكل الشمس، بل بنى لها هيكلًا عظيمًا في روما، وأمر بعبادتها في كل أنحاء الإمبراطورية.
ويذكر المؤرخون عنه أنه كان أول ملك رومانيّ ارتدى الحرير بعد أن دخل روما بملابسه الكهنوتية المصنوعة منه، وأنه كان يتحلى بالذهب في يديه وعنقه، وينشُر في قصره الرياحين والزهور، وينثُر تحت رجليه الذهب والفضة! حتى من رآه يجده أكثر تشبهًا بالنساء من أن يبقى ضمن زمرة الرجال!!
وإن كان “بيسانوس” وسيمًا، إلا أنه لم تكُن أخلاق ذميمة في قياصرة روما مثل أخلاقه!! فقد كان يستمتع بالضَِّحِْك وقت سخريته من الآخرين؛ وذوي العاهات خاصة!!! فيقول أحد المؤرخين: “فإذا أراد الترويح عن نفسه، دعا إلى مائدته ثمانية أشخاص عُوْر وثمانية عُرْجًا وثمانية صُمًّا، ويسخَر بهم بما شاء!!” وكان يقوم بالأعمال الصِّبيانية التي تتنافى وأخلاق الملوك والقياصرة؛ مثل أن يأمر بإطلاق الأسُود والنمور فجأة في أوقات اجتماع مجلس روما فيضطرب الحاضرون؛ مما يُسعده!! وأيضًا يقدم هدايا وتحفًا مملوءة بالحشرات لأتباعه تسبب لهم الرهبة والضرر!! وإذا اجتمع الشعب في الميادين، يأمر أعوانه بإطلاق الثعابين بينهم لينتشر الذعر ويتفرقون.
ولمّا كثر ظلمه وأعماله الصِّبيانية القبيحة، طلب إليه الشعب أن يُشرك في الحكم معه “الإسكندر سويرس” ابن زوجة “كراكلا قيصر”؛ فلم يجد مفرًّا من القبول كارهًا. وحاول قتله إلا أن أمره انكشف. وبعد قليل، قام عليه الشعب ليقتٌله؛ فهرب واختبأ؛ إلا أنهم بحثوا عنه حتى وجدوه وذبحوه وألقَوا جثته في نهر روما بعد ربطها بحجر، وكان ذٰلك في عام 222م. ثم تولى من بعده “الإسكندر سويرس قيصر” الذي … الذي سنقلِّب صفحات قادمة من تاريخه في حديث عن مِصر لا ينتهي … !
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي