تحدثنا فى المقالة السابقة عن شعب مِصر الذى لا يهاب الموت ولا يتنازل عن إيمانه وحريته، وأنه شعب برجاله ونسائه وأطفاله قدَّموا أُنموذجاً للعالم بأسره فى الشجاعة والاحتمال. وقد ذكرنا بعضاً ممن ساروا على هذا الدرب من وُلاة، وقواد، وجنود. واليوم نستكمل مسيرة هذا الشعب العظيم الذى يضحى بكل غالٍ وثمين من أجل ما يؤمن به.
شهداء من الجنود
فمن الجنود «آبا بِجُول» الجندىّ الذى سار على درب المِصريين فى رفضه التخلى عن حريته وعدم انصياعه لأوامر الإمبراطور فى أن يذبح للأوثان، فعاش سلسلة طويلة من العذابات الشديدة أمام واليَى الإسكندرية «كلوسيانوس» و«أرمانيوس». وحين باءت محاولاتهما بالفشل، أُرسل إلى «أريانوس» والى أَنْصِنا الذى بدوره حار إزاءه ولم يستطِع أن يستميله، فأرسله إلى الإمبراطور دقلديانوس وهناك قُطعت رأسه بعد فشل الإمبراطور تجاهه.
شهداء من الأساقفة
وقد عانى الأساقفة- والقساوسة والشمامسة ـ عذابات شديدة لئَلا يتخلَّوا عن إيمانهم. ولكن معدِن هذا البلد الأصيل كان يتغلل بأصوله القوية فى عروق كل من عاش على أرضه، فتجسدت فى كل مِصرىّ قوة عزيمة وصلابة لا تُقهران.
ومن هؤلاء الأساقفة نذكر أنبا «بِسادة» أسقف إبصاى ـ مدينة فى صَعيد مِصر جوار أخميم وحاليًّا تُسمى «المَنشأة شرق». ففى كتب تاريخ الكنيسة نجد نص الرسالة التى أرسلها إليه الإمبراطور دقلديانوس قائلًا:
«من دقلديانوس الإمبراطور إلى بِسادة: سلام. إن قبلتَ الخضوع للأوامر الصادرة منى إليك بأن تُبخر لآلهتى، أُعطِك سلطاناً أوسع، وآمُر جنودى بحراستك حيث سِرتَ. أمّا إن رفضتَ الإذعان فليس أمامك سوى الموت». وهنا تنتابنى الدهشة لكلمات «دقلديانوس» إذ كان إمبراطوراً لا يعرف طبيعة الشعب الذى يحكمه، يظن أن المِصرى ضعيف يمكن إغراؤه بعطايا وهِبات، فلم يعرِف ولا أدرك أنه شعب لا يتنازل عن أن يحيا بكرامة، وبحسَب ما يريد أن يحيا. وحين وصلت الرسالة أنبا «بِسادة» رفض، وودَّع شعبه مثبِّتاً إياهم. ثم أُودع السجن فى الإسكندرية، وبعد عذابات شديدة حُكم عليه بقطع رأسه.
نموذج آخر للصلابة يتجسد فى أنبا «أبادِيون» أسقف أَنْصِنا الذى استحضره الوالى «أريانوس» وعرض عليه منشور الإمبراطور، ثم طلب منه أن يُحضر المسيحيِّين ويحُثهم على عبادة الأوثان. فجمع الأسقف الشعب وأعلمه بالأوامر المرسَلة من القيصر، وثبَّته على الوقوف ضد من يحاول أن يسلُبه حرية إيمانه. فذهب أفراد الشعب بأكملهم إلى الوالى رافضين كل ضغط غير خائفين أى إرهاب، فأمر بقطع رؤوسهم بالسيف حتى إن المؤرخين ذكروا أن شوارع المدينة امتلأت بالدماء!! ما أعظمكِ يا مِصر! فقد رُويَت أرضكِ بدماء ذكية لم تستسلم للخوف أو الظلم حين أرادوا أن يسلبوا شعبكِ حريته. وقد قام «أريانوس» باصطحاب أنبا «أباديون» إلى أسيوط حيث قتل أعداداً غفيرة هناك، ثم أخميم حيث أرسل الجنود ليقتلوا الشعب خلال الصلاة! وتذكر كتب التاريخ الكنسىّ أنه ظل يقتل الشعب حتى صارت الدماء أنهاراً فى شوارع أخميم!! ثم عاد مرة أخرى بأنبا «أباديون» إلى أَنْصِنا وقطع رأسه بعد أن أذاقه من العذاب ألواناً وصُنوفا.
شهداء من القساوسة
ومن القساوسة نجد «آبا كلوج» القَس، من بلدة الفَنْت بمِصر الوسطى، وكان من الذين عُذبوا على يد أريانوس خلال رحلته فى صَعيد مِصر لتنفيذ أوامر الإمبراطور، وقد قُطعت رأسه بعد عذابات شديدة. وأيضاً نجد «آبا بجُول» و«آبا قَسطور» القَسَّين اللذين عُذبا على يد والى الإسكندرية «لوسيانوس» ثم أعقبه «أرمانيوس»، اللذين حاولا إدخال الخوف والرهبة من العذاب إلى قلبيهما حتى يستسلما، إلا أنهما احتملا كل ما تعرضا له من أصناف العذاب والألم، فحُكم بقطع رأسيهما.
شهداء من الشمامسة
ومن الشمامسة نجد «تيموثاوُس» الشماس الذى كان فى بلدة صغيرة فى أَنْصِنا. وقد حاول «أريانوس» أن يحوله عن إيمانه مستخدماً زوجته فى إقناعه بالخضوع والعدول عن موقفه، إلا أنه شددها وقواها حتى وقفا معاً ضد الوالى، وحكم عليهما بالموت صَلباً.
ولم ينجُ من الموت الرهبان والراهبات، حتى إنه مات منهم فى أَنْصِنا وحدها خمسة آلاف راهب مع أسقفهم أنبا «يوليانوس».
شهداء من الأطفال
ومن الأطفال المِصريِّين الذين تعلموا من أجدادهم البسالة والشجاعة الطفل «بِيكام»، الذى عُذب ومات وهو فى سن العاشرة على يد أريانوس الوالى. والفتى «شِنُوسى» الذى كان عمره اثنى الثانية عشرة، من بلدة بلكيم ـ حاليًّا مركز السنطة ـ
وقد قُبض عليه وطُلب منه أن يُنكر الإيمان، ولكنه رفض فعذبوه بكل أنواع العذابات إلى أن حكم «أريانوس» بقطع رأسه. ومن أشهر الصِّبيان المِصريين «آبانوب النَّهِيسى» من سمنود، الذى رفض الانصياع لأوامر الإمبراطور فقام الوالى بطرحه فى السجن، ثم اصطحبه إلى أتريب حيث نال كثيراً من العذابات الشديدة. ولمّا عجِز أمام ثباته، أرسله إلى والى الإسكندرية، وبعد عذابات مريرة قُطعت رأسه وهو فى الثانية عشرة. وهؤلاء الأطفال هم أمثلة فقط لأطفال مِصر الشهداء الذين قدَّم عديد منهم حياتهم من أجل إيمانهم دون خوف أو تراجع.
شهداء من أجل طهارتهم.
كذلك هناك أبطال دافعوا عن عفتهم وطهارتهم مؤْثرين الموت عن فعل الشر، ومن أمثلتهم: العذراء العفيفة المِصرية «ثيؤدورة» التى استُشهِدَت فى زمن «دقلديانوس»، وكان عمرها سبعة عشر عاماً. كانت «ثيؤدورة» جميلة ومن أسرة نبيلة، وقد أمرها الوالى أن تبخر للأوثان وإلا ستُعاقب بإيداعها بيتاً للدعارة! ولكنها رفضت، فما كان من أحد الشباب إلا وتنكر فى زى جندى وأخرجها من ذلك المكان بعد أن مكنها من الهرب وهى مرتدية زى جندى. وحين كُشف أمره حُكم عليه بالإعدام، فعلِمت هى بأمره وتبِعَته واستُشهِدَت هى أيضاً.
خاتم الشهداء
وأختتم هذه المرحلة باستشهاد البابا بطرس الملقب بـ«خاتم الشهداء». كان الإمبراطور ثائراً على بابا الإسكندرية لِما رآه من صلابة الشهداء المِصريِّين، بل وتشجيعهم للآخرين على الثبات والتضحية بالنفس فى سبيل الإيمان، ليس فى مِصر وحدها بل وخارجها.
ولذا قُبض على البابا بطرس بأمر من الإمبراطور «مكسيميانوس» ووُضع فى السجن. وحين سمِع الشعب تجمع عند السجن لإنقاذه من الموت. إلا أن البابا حرَص على حياة شعبه فخرج من جهة أخرى بعيدة عنهم، ووصل مكان الإعدام الذى فيه استُشهِد مار مرقس الرسول. وهناك صلى البابا طالباً إلى الله إنهاء الاضطهادات وخَتمها بقوله: تقبَّل يا الله حياتى فداء عن شعبك. وسمِع صوتًا يقول: آمين. ويُذكر أنه لا أحد من الجنود استطاع تنفيذ الحكم، حتى أمر القائد بأموال لمن يقطع رأس ذاك الشيخ، فتقدم أحدهم وقطع رأسه.
أريانوس الوالى
وأمّا عن «أريانوس» والى أَنْصِنا، فقد قاد حملات تعذيب وقتْل للمسيحيين المِصريين. ولم يوجد، ليس فى البلاد المصرية فقط بل فى كل وِلايات الإمبراطورية الرومانية، مَن كان أشد عداوة وقساوة منه، حتى إن الوُلاة كانوا يُرسلون إليه من فشِلوا هم فى تحويله عن إيمانه حتى يقوم هو بتعذيبه. حتى إنه فى أحد الحوارات مع أنبا «آباديون» فى أثناء تعذيبه قال له أنبا «أباديون»: مضَيتَ من عندنا وأنت صَديق، فعدتَ وأنت عدُو. مضَيتَ وأنت إنسان، فصرتَ وحشاً كاسراً. فقال له أريانوس: أهل الصَّعيد قساة القلوب غِلاظ الرقاب، فمن أجل هذا أقامونى، حتى أؤدبهم!
وقد استُشهِد على يديه عدد من المسيحيِّين المِصريِّين لا يعد ولا يحصى! غير أنه فى أثناء تنفيذ أوامر الإمبراطور بتعذيب اثنين ـ أحدهما يُدعى «فليمون» والآخر «أبولونيوس» ـ أصاب إحدى عينيه سهم فقلعها، وشُفى بسبب صلاة هذين الشهيدين من أجله. وعلى إثر ذلك أعلن إيمانه، فقام «دقلديانوس» ـ الذى كان فى الإسكندرية وقتئذ ـ بتعذيبه بأشد أنواع العذابات حتى استُشهِد!
وعن مِصر الحلوة التى أثَّرت فى كل من عاش بها الحديث لا ينتهى… !
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى