تحدثنا فى مقالة سابقة من سلسلة مقالات «مصر الحلوة» التى كانت بعنوان «وعد… وتحذير»، ونشرت بتاريخ ١٢/٧/٢٠١٥م، عن البابا «سِيمون الأول»، البطريرك الثانى والأربعين فى بطاركة الإسكندرية، وعَلاقته بـ«عبدالعزيز بن مروان» والى «مِصر»، وما تخلل تلك الحقبة من المِحن بسبب الملكانيِّين الذين رسموا أسقفـًا وكاهنين دون علم الوالى، فى اتهام وُجه إلى بطريرك «الإسكندرية» بالخيانة وبإرسال أخبار «مِصر» إلى «الهند»، حتى ظهرت براءة البطريرك القبطى. وبعد نياحته، خلا الكرسى المَرقسى ثلاثة أعوام إلى أن انتُخب البابا «ألِكسندروس الثانى» البطريرك الثالث والأربعون فى بطاركة «الإسكندرية». وقد تحدثنا عن مدة خلافة «عبدالملك بن مروان»، وأن فيها مرِِض أخوه «عبد العزيز» والى «مِصر» وتُوُفِّى عام ٧٠٤م فى «حُلوان»، بعد موت ابنه «الأصبغ».إلا أن فى وقت ولاية «عبدالعزيز بن مروان» كان ابنه «الأصبغ» يحكم كثيرًا من أمور «مِصر»، وكان شديد الكراهية للأقباط إذ قد وصلته وِشاية أن كُتبهم تحتوى سُبابـًا؛ فقرَّب إليه شخصـًا يُدعى «بنيامين» كان شماسـًا، فكان يُخبره بجميع أسرار الأقباط. وقد ترجم له «الإنجيل» والكتب الدينية إلى اللغة العربية لقراءتها وتعرُّف هل كانت تحوى أى شتائم وأمورًا ضد المسلمين؛ والجدير بالذكر أن كُتب المَسيحيِّين لا تحتوى على أى إساءات إلى أحد.ومن الأمور التى زادت العَلاقات سوءًا بين الحاكم والكنيسة ما قام به البطريرك الملكانى من وِشاية ضد رهبان الكنيسة القبطية، وأشاع أنهم يملِكون أموالاً جزيلة، ما دعى «الأصبغ» إلى قيامه بإحصاء الرهبان فى الأديرة وفرض عليهم الجزية أول مرة فى «مِصر»، ومنع الأديرة من قَبول رهبان جدد، ووضع على الأساقفة مبالغ مالية كبيرة إضافة إلى ما يدفعه الأقباط؛ مما كان له أبلغ الأثر عليهم.
وكما ذكرنا، فإن الخلافة كانت قد آلت إلى «عبدالملك بن مروان» من بعد أبيه، ومقر خلافته فى «دمشق»؛ وقد ولّى ابنه «عبدالله بن عبدالملك» حكم «مِصر». ثم تولى الخلافة من بعده ابنه «الوليد بن عبد الملك»، فأقر «عبدالله» على ولاية «مِصر»، ثم أقاله وولى «قُرَّة بن شريك»، ومن بعده «عبدالملك بن رفاعة القينى». وبعد موت «الوليد» تولى أخوه «سليمان بن عبدالملك» أمور الخلافة.
«عبدالله بن عبدالملك بن مروان» (٨٦–٩٠ هـ/٧٠٥-٧٠٩م)
هو ابن الخليفة «عبدالملك بن مروان». تولى حكم «مِصر» بعد وفاة عمه. وعند بَدء حكمه فى «مِصر»، طلب منه أبوه الخليفة «عبدالملك» أن يسلك مع الرعية ويحكم على مثال عمه «عبدالعزيز» الذى حكم «مِصر» قُرابة العشرين عامـًا، لٰكنه لم يفعل.
وكان عند دخوله «مِصر» أن ارتفعت الأسعار فتشاءم المِصريُّون بتوليه الحكم. وقد اضطهد الوالى «عبدالله» الأقباط بشدة؛ فقد ذكرت «بوتشر» المؤرخة أن زمن حكم هٰذا الوالى، الذى امتد إلى ثلاث سنوات، كان تعبـًا واضطهادًا على الأقباط.
ويذكر «ابن المقفع» أنه عندما تولى «عبدالله» الحكم، ذهب إليه البابا البطريرك «ألكسندروس» لتهنئته بالولاية؛ ففرض عليه «عبدالله» غرامة مالية قدرها ثلاثة آلاف دينار، وأمر بحبسه وإهانته حتى يُوفى المال!! وقد حاول الأقباط تخفيض الغرامة، إلا أنهم لم يفلحوا فى هٰذا، فاستأذن أحد الشمامسة الوالى بأن يُطلق سراح البابا ويرحل معه ليجول به مدن «مِصر» فى الوجه البحرى من أجل أن يجمع المال المطلوب؛ فوافق الوالى؛ وهٰكذا سدد البابا قيمة الغرامة بعد أن اقترضها من الشعب. ويُذكر أن «عبدالله» كان يجمع إليه الأساقفة والرهبان ليسخر بهم ويُهينهم!!
إلا أن ظلم هٰذا الوالى، والجَور الذى عامل به المِصريِّين، وكونه مرتشيـًا، كان قد وصل إلى مسامع أخيه الخليفة «الوليد بن عبدالملك» الذى تولى الخلافة بعد موت أبيهما «عبدالملك بن مروان»؛ فأبعده عن حكم «مِصر» وولى «قُرَّة بن شريك» بدلاً منه.
«الخليفة» الوليد بن عبدالملك (٨٦-٩٦ هـ/٧٠٥-٧١٥م)
تولى الخلافة بعد موت ِأبيه «عبدالملك». وفى عهده، اتسعت الدولة الأموية شرقـًا وغربـًا ففتح «الهند» و«الأندلس» و«أفريقيا»، وبلغت أقصاها عندما وصلت الجيوش شرقـًا حتى مدينة «سمرقند» و«نهر السند». اهتم «الوليد» بأحوال رعيته، وأقر أخاه «عبدالله» على حكم «مِصر»، وأمره بنسخ دواوين «مِصر» بالعربية إذ كانت لاتزال اللغة القبطية هى اللغة المستخدمة حتى ذٰلك الوقت. ويذكر المؤرخون أن الخليفة اهتم بتقدم البلاد لا سيما العمارة فبنى «جامع بنى أمية» ودارًا للعَجَزة والمرضى فى «دمشق» واهتم بشُؤونهم، ولٰكنه كان قد هدَّم «كنيسة مار يوحنا فى دمشق». وكانت مدة خلافته عشَرة أعوام.
أولى «الوليد» على حكم «مِصر» كلاً من «قُرَّة بن شريك»، و«عبد الملك بن رفاعة القينى».
«قُرَّة بن شريك» (٩٠-٩٦هـ/٧٠٩-٧١٤م)
تولى «قُرَّة» حكم «مِصر» من بعد «عبدالله». ومن أعماله أنه أحيا بِركة الحبش وغرس فيها القصب وأطلق عليها اسم «اصطبل قُرَّة». كذٰلك أعاد بناء «جامع عمرو بن العاص» فى «مصر القديمة» بأمر من الخليفة. إلا أنه كان جبارًا أشد قسوة من سابقه؛ حتى إن أحد الشعراء قال فيه:
أساء «قُرَّة» معاملة الأقباط، فقام بتوقيع غرامة على البابا «ألكسندروس» قيمتها ثلاثة آلاف دينار عندما حضر لتهنئته بالولاية؛ ولم يجد البابا سبيلاً إلا أن يقوم بجمعها من الشعب كما فعل مع سابقه؛ فجال مدن الصَّعيد يجمع المال، ولم يتسنَّ له إلا دفع مبلغ ألف دينار بعد عامين. كذٰلك تعرض البابا لمضايقات من الوالى بعد أن وشى البعض لديه بأن البابا البطريرك لديه من يقوم بضرب الدنانير؛ فألقى القبض عليه، وأغلق البطريركية حتى ظهرت براءته. دام حكم «قُرَّة» على «مِصر» ما يقرب من ست سنوات حتى موته، وكان مثالاً صارخـًا للظلم الشديد حتى كرهه المِصريُّون جميعـًا. ويذكر المؤرخون قول الخليفة »عمر بن عبدالعزيز» عنه: «الحَجّاج» بالعراق، و«الوليد» بالشام، و«قُرَّة بن شريك» بمِصر، و«عثمان بن حيان» بالمدينة، و«خالد» بمكة! اللهم قد امتلأت الدنيا ظلمـًا وجَورًا، فأرِح الناس!.
الخليفة «سليمان بن عبد الملك» (٩٦-٩٩ هـ/٧١٥-٧١٧م)
بِويع له بالخلافة بعد وفاة أخيه «الوليد». حاول السير على خطى أخيه فى التوسعات ففتح «طبرستان» و«كرچستان» (چورچيا) فى أول عام من خلافته، كما حاول فتح «القسطنطينية» لٰكنه لم يتمكن من الاستيلاء عليها. وذُكر عنه أنه كان فصيحـًا بليغـًا لا يسعى لسفك الدماء. كذٰلك تحدث المؤرخون بعَدله، وإن كانوا قد نسبوا إليه صفة البخل الشديد. وفى أثناء مرضه، كتب يولّى الخلافة من بعده إلى «عمر بن عبدالعزيز» فقال: هٰذا كتاب من «عبدالله سليمان» أمير المؤمنين إلى «عمر بن عبدالعزيز»: إنى قد ولَّيتك الخلافة من بعدى، ومن بعدك «يزيد بن عبدالملك»؛ فاسمعوا له، وأطيعوا، واتقوا الله، ولا تختلفوا فيطمع فيكم». ثم تُوفى بعد أن قضّى فى الخلافة عامين. وكان قد أقر على «مِصر» واليها «عبدالملك بن رفاعة القينى»، الذى تولى حكمها من أخيه الخليفة «الوليد»؛ وكان «أسامة بن يزيد» على أمر خَراجها. و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى