نستكمل معًا تاريخ «مِصر»، الذى تحدثنا فيه عن الظلم شديد الذى عاناه المِصريُّون من «عُبيدالله بن الحَبْحاب» المعيَّن على أمر الخَراج (جمع الضرائب)، فانتفضوا من أجل ظلمه وتعسفه، وشكَوه إلى الخليفة الذى أبعده عن «مِصر» وعيّن مكانه ابنه «القاسم». لٰكن «القاسم» اندفع فى سياسة العنف بعد زمن ليس بطويل، ظهرت بعد نياحة «البابا ثيئودوروس» الذى ظل الكرسىّ المَرقسىّ شاغرًا من بعده قرابة الثلاث سنوات، حتى استقر الرأىّ بعد مناقشات شديدة وحادة على «القَس خائيل» من دير «أبى مقار» ليصير «البابا خائيل الأول» البطريرك السادس والأربعين على كرسىّ «مار مرقس». وتحدثنا عن الخليفة «إبراهيم بن الوليد» (١٢٦-١٢٧هـ/٧٤٤م)، ثم الخليفة «مروان بن مُحمد»، آخِر خلفاء الدولة الأُمَوية، الذى قد امتلأ عهده بالحُروب والفتن والكوارث. أمّا فى «مِصر»، فقد طلب واليها «حَفص» إلى الخليفة «مروان» إعفاءه من الولاية، فقبل الخليفة وولّى بدلاً منه «حسّان بن عتاهية» حكم «مِصر». ثم تولَّى «حَفص بن الوليد» حتى عزله الخليفة وولّى مكانه «حَوثرة بن سُهَيل» الذى حارب «حَفصـًا» وقتله.
(حَوثرة بن سُهَيل )١٢٨-١١هـ/٧٤٦-٧٤م
ما إن تولَّى «حَوثرة» حكم «مِصر»، حتى أعد الجيوش وقدَم إلى «مِصر» لقتال «حَفص بن الوليد» وقدَم معه «عيسى بن أبى العطاء» عاملًا على الخَراج. وقد قاتل «حَوثرة» جند «مِصر» وأهلها الذين تجمعوا لكى يمنعوه من دخولها، ولٰكن «حَفص» نهاهم عن ذٰلك، فسألوا «حَوثرة» الأمان فأمّنهم، وكان قد نزل بالقرب من «الفسطاط». وعندما خرجوا إليه، قبض على الجند ومعهم «حَفص»، ثم استدعى كبار أهل «مِصر» ووجهاءها فقتلهم، ثم قتل «حَفص بن الوليد». واستقرت له أمور الحكم فى «مِصر» مدة ثلاث سنوات ونصف السنة، حتى عزله الخليفة عن حكم «مِصر»، وأرسله لقتال العباسيِّين فى «العراق» فقُتل هناك، وتولى من بعده أمر «مِصر» «المُغِيرة بن عبيدالله».
«المُغِيرة بن عبيدالله » (١١-١٢هـ/٧٤-٧٥م)
قدَم إلى «مِصر» بعد عزل «حَوثرة» وتوجهه إلى «العراق» لنجدة الجيوش هناك؛ وقد ذكر عنه المؤرخون أنه كان ليِّنًا، عادلًا محبَّبًا إلى الشعب، وأنه حين جاء إلى «مِصر» لم تَطُل مدة إقامته بها حتى ذهب إلى «الإسكندرية» وقضّى بها مدة طويلة، ثم عاد إلى «مِصر» ولٰكن لم يلبث بها طويلًا إذ تُوُفّى فيها بعد أن دامت ولايته عشَرة أشهر تقريبًا. وقد ترك أمر حكم «مِصر» لابنه «الوليد»، لٰكن الخليفة لم يُقره وولَّى مكانه «عبدالملك بن مروان بن موسى بن نصير». ويذكر المؤرخ «ابن تَغرى»: «وكان «المُغِيرة» ديِّنًا (متديِّنًا)، فاضلًا، عَدْلًا (عادلًا)، محبَّبًا للرعية؛ وهو من أجَلّ أمراء بنى أمية، وولّى لهم الأعمال الجليلة…».
«عبدالملك بن مروان بن موسى بن نصير اللَّخمى» (١٢هـ/٧٥م)
تولَّى حكم «مِصر» فى عهد الخليفة «مروان بن مُحمد»، وكان محبًّا للمال متشددًا فى جمعه وهو ما جعل مدة حكمه من الأزمنة الصعبة التى عانى فيها الأقباط بشدة؛ فقد تسبب الوالى لهم فى مضايقات كثيرة وشدائد عظيمة إذ كان يَكِنّ لهم العداء الشديد. وقد ألقى القبض على الأب البطريرك «البابا خائيل» وبعض الأساقفة وثلاث مائة رجل وامرأة، وطالب البابا بالمال فطلب الخروج لجمعها فأذن له، ثم أفرج عنه بعد أن قدَّم إليه ما جمعه من المال. ثم اعتقل البابا البطريرك مرة أخرى ما أثار غضب ملك النوبة «كرياكوس» («قرياقوس») الذى حضر إلى «مِصر» بجنوده لإطلاق سراح البابا وقتال «عبدالملك»؛ وعند وصوله إلى «بِركة الحبش» جنوب «الفسطاط»، أطلق الوالى سراح البابا وطلب منه تحسين العَلاقة بينه وبين ملك النوبة، وقد فعل البابا ذٰلك.
ويُعد «عبد الملك بن مروان» هو أول من أمر باتخاذ المنابر فى الجوامع ليَخطُب من فوقها الخطباء. وقد ثار عليه أقباط «مِصر» نتيجة اضطهاده إياها فقاتلهم وقتل منهم كثيرين حتى أخضعهم.
سقوط وقيام
يُعد الصراع داخل أىّ نظام سياسىّ هو اللَّبِنة الأساسية لسقوط ذلك النظام وقيام آخر، وهذا أحد الدُّروس التى يقدِّمها التاريخ وقد حدث فى الدولة الأموية، فقد بدأ الضُّعف يَدِب فيها بعد موت الخليفة «هشام بن عبدالملك»، وتولِّى «الوليد بن يزيد» الخلافة من بعده، الذى قُتل بسبب انشغاله عن الدولة وأمور السياسة، وقد ذكرنا سابقًا عنه أنه قُتل لسوء تدبيره وصُدور كثير من الأمور القبيحة منه، حتى إن المؤرخ «ابن تَغرى» قال عنه: «… الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية» (الهاشمىّ) الأُمَوىّ الدمَِشقىّ المعروف بـ«الفاسق»…؛ ثم تولِّى «يزيد بن الوليد» و«إبراهيم القاسم» و«مروان بن محمد»، الذين شهِدت عصور حكمهم انقسامًا وحُروبًا داخلية. ومع هٰذا الضُّعف والانقسام، تقوَّت الأحزاب والحركات المعارِضة للدولة الأُمَوية وبخاصة «الدعوة العباسية» فى «العراق» و«إيران».
تطوَّر الحزب العباسىّ تطورًا تدريجيًّا على نحو غير معلَن حينما كانت الدولة الأُمَوية قوية. ويرى الباحثون أنه مع ضُعف الأمويِّين، استغل العباسيُّون حالة الضُّعف الاقتصادى، والتمييز العنصرى، والتمييز الطبقىّ الذى كان يمارسه الأُمَويُّون فى التفريق بين العرب وغير العرب.
وتولَّى أمور الدعوة العباسية «مُحمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس»، وابنه «إبراهيم» الذى سجنه الخليفة «مروان بن مُحمد» فى «مدينة حران» إلى أن تُوُفّى عام ٧٤٦م، فقام أخوه «أبوالعباس» بإدارة الحركة العباسية بِناءً على دعوة «أبى مسلم الخُراسانى» الذى أعلن قيام الدولة العباسية فى «خُراسان»، واحتلاله مدينة «مِرْو» ومنها انتقل إلى «الكوفة» سرًّا وظل مختفيًا حتى بايعه أهلها بالخلافة. ومع هٰذه الأحداث، تقاتل الجيش الأُمَوىّ بقيادة «مروان بن مُحمد» وجيش العباسيِّين بقيادة «أبى العباس» قرب «نهر الزاب» شَمال «العراق»، وتلقى جيش «مروان» هزيمة كبيرة.
وفى أثناء ذٰلك الصراع، هرب الخليفة «مروان بن مُحمد» بعد هزيمته من الجيش العباسىّ إلى «مِصر»؛ وفى أثناء هروبه اضطهد هو الأقباط أيضًا، واعتقل «البابا خائيل الأول» مرة أخرى ومعه البطريرك الملكانىّ «قزما» الذى أُطلق سراحه بعد أن قدَّم مالًا إلى الخليفة. وعند طلبه مقدار المال نفسه من البابا «خائيل» لم يكُن لديه ما يقدِّمه فأبقى عليه معتقلًا. تبِع الجيشُ العباسىّ «مروان» إلى «مصر»؛ فهرب جنده إلى الصَّعيد، وفى هروبهم ارتكبوا فظائع يندى لها الجبين مع الأقباط إذ لم يتورعوا عن قتلهم ونهب أموالهم، وكذا سبَوا النساء والأطفال وأحرقوا الأديرة، فكان ذٰلك الزمان من الأزمنة العصيبة التى مرت بـ«مِصر».
«البابا خائيل الأول» البطريرك السادس والأربعون
اِختير فى عهد الخليفة «هشام بن عبدالملك»، وتعرَّض لمضايقات من بعض الوُلاة، على حين نال حَظوة عند آخرين؛ فتذكُر الأستاذة «إيريس حبيب المصرى» أن السنة الأولى من باباوية «البابا خائيل الأول» امتلأت بالظلم والضيق اللذين تعرض لهما المِصريُّون من «أسامة بن يزيد». ولم يجد الأب البطريرك حلًّا فى اجتياز تلك الشدائد سوى أن يرتفع بالصلاة إلى الله؛ فقصد «برِّية شيهيت» مع بعض الآباء الأساقفة، حتى أمر الخليفة «مروان الثانى» بعزل «أسامة» عن «مِصر». أما فى أثناء وِلاية «حَسّان بن عتاهية» ـ ويرى بعض المؤرخين أنه «حَوثرة بن سُهَيل» ـ فقد ربطت المحبة والسلام بين حاكم «مِصر» و«البابا خائيل الأول» حتى توطدت أواصر الصداقة بينهما، وأيضًا بين حاكم «مِصر» و«أنبا مويسيس» أسقف أوسيم الذى كان ملازمًا للبابا.
وفى عهد الخليفة «مروان بن مُحمد» طالب الملكانيُّون الخليفة بأن يسلمهم كنيسة «أبى مينا» بمريوط، مدّعين أنها مِلك لهم لا لأقباط «مِصر». فطلب الخليفة حضور «البابا خائيل» فى وجود بطريرك الملكانيِّين ليسمع منهما عن أمر تلك الكنيسة، و… وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسى