يحتفل المِصريُّون غدًا بذكرى تحرير “سيناء” واستعادة هٰذه الأرض المِصرية الغالية على قلب كل مِصريّ. إن “سيناء” على مر العُصور والأزمان تحظى بمكانة متميزة في أعماق المِصريِّين؛ وقد كانت مركز اهتمام المِصريّ في كل الأزمان إذ وعى الجميع مكانتها الجغرافية فلقد مثَّلت أحداثًا غيرت مجرى التاريخ، ونالت بركات كثيرة بعُبور رجال الله إلى “مِصر” من خلالها؛ فصارت جزءًا غاليًا لم يَضَنّ المِصريُّون بتقديم أرواحهم فداء ترابها. ولم يكُن الاهتمام بـ”سيناء” مِصريًا فحسْب، ولٰكنها نالت اهتمامًا دُوليًّا صائرةً دائمًا مَِحط اهتمام دول العالم؛ ولا نجد بلدًا أو مدينة في العالم بأسره خصه الله بشهرة عبر التاريخ الإنسانيّ مثل “سيناء”! سيناء أرض الكُنوز تحمِل التاريخ إن كل جزء في أرض “سيناء” يحمل عبق التاريخ المِصريّ والعالميّ، وكأنها صفحات التاريخ وقد نُقش في جوانبها فتقرأ كلماته في آثارها. وفي دُروب “سيناء” يمكنك تتبع خَطوات معارك صنعت التاريخ، مثل “حرب رفح” في العصر البطلَيميّ، ومواجهة الجيش المِصريّ لغزو “التتار” الذين اجتاحوا العالم آنذاك مسيطرين علي كثير من مناطق “آسيا” الوسطى و”الصين” و”العراق” حيث قتلوا آخر الحكام العباسيِّين، وتقدموا إلى “الشام” فتمكنوا من القضاء على الدولة الأيوبية، ثم اتخذوا طريقهم إلى “مِصر” حيث واجهتهم الجُيوش المِصرية، بقيادة “سيف الدين قطز” سلطان المماليك، فانطلقت عبر “سيناء” لتُلحِق بهم هزيمة نكراء عند “عين جالوت” في جنوب “فِلَسطين”؛ ليضعُف ويتلاشى خطر “التتار” على العالم بأسره. وفي التاريخ الحديث، كانت “سيناء” مسرحًا للصراع الفرنسيّ العثمانيّ في “مِصر”، فتأثرت كثيرًا بالحُروب الدائرة بينهما حيث دُمرت “العريش” إثر قذائف مدافع القوات الفرنسية واستشهد كثير من أهلها في أثناء دفاعهم عن أرضهم، في شجاعة وبسالة لا مثيل لهما. كذٰلك شهِدت “سيناء” حادثة “الحُدود” في عام ١٩٠٦م عندما حاولت “تركيا” الهُجوم على “مِصر”، مع إعلان “بريطانيا” حمايتها على “مِصر”، ولٰكنها مُنيت بفشل ذريع. وفي عام ١٩٥٦م، شهِدت “سيناء هجومًا” إسرائيليًّا في العُدوان الثلاثيّ على “مِصر”، ولٰكن “إسرائيل” انسحبت بعد صُدور قرار “مجلس الأمن الدُّوليّ”. وتكرَّر الهجوم الإسرائيليّ باحتلالها عام ١٩٦٧م، إلى أن عادت في ١٩٨٢م، وكاملة بـ”طابا” في ١٩٨٩م.
ومن صفحات التاريخ التي تحملها “سيناء” أقْدَم الطرق التي ربطت بين قارتَي “آسيا” و”أفريقيا”: o طريقان تِجاريان مهمان: هما “طريق الفَرَما” على ساحل “البحر المتوسط” فـ”الشام” فـ”العراق” ليربِط وادي “النيل” ببلاد ما بين النهرين، “وطريق البترا” الذي يصل إلى “الحجاز” عابرًا “بلاد الطُّور”. o “طريق حورس”: وهو طريق حربيّ قديم استخدمه مُلوك “مِصر” القديمة في حملاتهم على الشرق، وساهم في انتعاش الحركة التِّجارية بين “مِصر” وبلاد “الشام”؛ ويبدأ من “القنطرة” الحالية، متجهًا ناحية الشَّمال، فيمر على “تل الحيّ” ثم إلى “بئر رومانة” قرب “المُحمدية”، ومن “قطية” يتجه إلى “العريش”. ويحمل هٰذا الطريق بعضًا من آثار القلاع القديمة، مثل: “قلعة ثارو”، و”حصن بوتو” الذي يعود إنشاؤه إلى الملك “سيتي الأول”. o “درب الحج”: الذي استخدمه قديمًا “الرومان” و”الأنباط”، ويتجه من الشرق إلى الغرب في “سيناء”، ثم أصبح طريقًا للحجاج من “مِصر” إلى “مكة”، إلا أن افتتاح قناة السويس وتطور السفن كان له أثر كبير في ترك الحجاج للطريق البريّ وتفضيل البحْريّ عليه. o “طريق القوافل”: بين “مِصر” و”الشام” في العصر العثمانيّ، حيث يبدأ من “بركة الحاج” فـ”الخانقاه”، فـ”بلبيس”، فـ”غابة القرين”، فـ”الصالحية”، فـ”قطية”، فـ”العريش”، فـ”خان يونس”، فـ”غزة”. o ولا يمكننا أن ننسى “طريق العائلة المقدسة” التي زارت أرض “مِصر” فصارت دربًا يتطلع إليه العالم بأسره. o وأيضًا من خلال “سيناء”، اتخذ “عمرو بن العاص” طريقه إلى “مِصر” فكان الفتح العربيّ لها. وفي “سيناء”، يتوقف الزائرون فيها أمام عدد هائل من الآثار الدينية أو التاريخية التي لم يعرفها بلد آخر في العالم، ففيها: o “جبل موسى”: أشهر جبال “سيناء” بل العالم بأسره، إذ تجلى عليه الله ـ تبارك اسمه ـ لـ”موسى النبيّ” وكلَّمه وأعطاه “الوصايا العشْر”. o “جبل سانت كاترين”: وبه “دَير القديسة كاترين”، الذي بناه الإمبراطور “يوستينيانوس” عام ٥٤٥م تقريبًا، حيث العُلَّيقة المشتعلة التي رآها “موسى النبيّ”، و”مسجد الحاكم بأمر الله” الذي بُني في العصر الفاطميّ إبان القرن الحادي عشَر الميلاديّ، وهو من الحجر الجرانيت. وفي أثناء الاحتلال الفرنسيّّ، رمم”نابُليون بونابرت” سور الدير. o “الوادي المقدس”: وهو إلى جانب كنيسة العُلَّيقة، ولا يُسمح بدخوله لأيّ إنسان إلا بعد خلع حذائه تمثلًا بـ”موسى النبيّ” حين أمره الله بخلع نعليه لأن الأرض التي كان واقفًا عليها مقدسة. o “دير البنات”: في “قرية فيران” بـ”وادي فيران”، وهو من أقــدم وأهم الأديرة المَسيحية في “سيناء” . ويتضمن أيضًا “وادي فيران” عددًا من الأديرة والكنائس التي تعود إلى العصر القبطيّ المبكر. o “دير القديس سان چورچ” وكنيسته في “طور سيناء”، وهو عبارة عن دير للروم الأرثوذكس، ملحقة به “كنيسة القديس سان چورچ”. o القلاع والأبراج التي بُنيت على مر العصور مثل: “قلعة نخل”، و”قلعة صلاح الدين”، “قلعة وادي موسى”، و”قلعة البغلة”، و”قلعة الطور”، وغيرها؛ التي تحمل كل منها سمات العصر الذي شُيدت فيه. إلا أن “سيناء” لا تحمل فقط صفحات للتاريخ، لٰكنها تحمل مستقبلًا طموحًا يحمل الخير لجميع المِصريِّين، باستثمار ما لديها من مقومات طبيعية، وموارد لا تنضُب في مجالات التعدين، والسياحة، والزراعة، والصناعة؛ لتصبح منبعًا لفرص عمل جديدة للمِصريِّين، إضافةً إلى احتوائها على مشروعات عالمية بوصفها جزءًا من إقليم “قناة السويس” بما يحمل من مشروعات عملاقة ترتقي إلى المستوى الدُّوليّ.
التعدين تُعد “سيناء” المورد الأول للثروة المعدِنية في “مِصر”، حيث يتدفق من أرضها: النُّحاس والفوسفات والحديد والفحم والمنجنيز واليورانيوم، إضافةً إلى الفيروز الذي يُعد من أجود الأنواع في العالم إذ بدأ منذ تاريخ “مِصر” السحيق مع قدماء المِصريِّين فاستُخدم في تزيين المعابد والتماثيل. كذٰلك تتميز “سيناء” بتوافر الرخام وهو من الأنواع المتميزة التي تماثل أجود الأنواع العالمية، كما يتوافر بها الرمال البيضاء التي يُصنع منها الزجاج، ومواد البناء والرصف، وخامات صناعة الأسمنت، والرمال السوداء التي تُستخدم في الصناعات المشعة ومواد الطِلاء والحديد والبلاط (السيراميك) وأوراق الصنفرة. إن “سيناء” هي هبة الله لأرض “مِصر”، حباها بموقع متميز حمل معه نبض التاريخ، وثروات غزيرة متنوعة تفتح آفاقًا متسعة للمِصريِّين كي يخطوا إلى المستقبل بأيدٍ عاملة، ثابتة، واثقة من تحقيق كثير لخير بلادها. كل عام وجميعكم بخير في يوم تحرير “سيناء”، و … وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهي …!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ