تحدثنا فى المقالة السابقة عن «البَرامِكة» ونهاية حكم «هارون الرشيد»، وبدأنا الحديث عن وُلاة «مِصر» فى ذٰلك الزمان، وكان آخر من تكلمنا عنه من حكامها هو «إسحاق بن سُلَيمان» الذى ثار عليه المِصريُّون وحاربوه، فعزله الخليفة وأرسل بدلاً منه «هَرْثَمة بن أَعيَن».
«هَرْثَمة بن أعيَن» (١٧٨هـ) (٧٩٤-٧٩٥م)
أحد أمراء الخليفة «هارون الرشيد» وقواده، ويتسم بالشجاعة والهيبة، وقد ولاه «الرشيد» على «مِصر» بعد ما وقع من أحداث بين «إسحاق بن سُلَيمان» وأهل «مِصر»، فأرسله بجيش كبير لقتال المِصريِّين، وعهِد إليه بحكمها. وعند وصوله إلى «مِصر» استقبله المِصريُّون بالطاعة فأمِنهم، وأرسل بتلك الأخبار إلى «الرشيد». ولم تطُل مدة حكمه على البلاد، إذ أرسل الخليفة بعزله وخروجه بجيشه إلى «أفريقية»، وتولى حكم «مِصر» من بعده «عبدالملك بن صالح العباسىّ».
«عبدالملك بن صالح» (١٧٨هـ) (٧٩٥م)
هو «عبدالملك بن صالح بن علىّ بن عبدالله»، «أمير» مِصر، الملقَّب بـ«أبى عبدالرحمٰن الهاشمىّ العباسىّ». تولى «عبدالملك» حكم «مِصر» ـ بعد أن توجه «هَرْثَمة» بجيوشه إلى «أفريقية»، ولٰكنه لم يدخلها، بل أناب عنه فى حكمها «عبدالله بن المُسيِّب»، وقد عُزل مع نهاية عام ١٧٨هـ(مارس من عام ٧٩٥م)، فتولى الحكم «عُبَيد الله بن المهدىّ». وهٰكذا فى عام ١٧٨هـ (٧٩٤-٧٩٥م) يكون قد تولى حكم «مِصر» ثلاثة حكام.
«عُبَيدالله بن المهدىّ» (١٧٩هـ) (٧٩٥م)
«عُبَيد الله بن الخليفة مُحمد المهدىّ» أخو الخليفة «هارون الرشيد لأبيه، تولى أمر «مِصر» من بعد «عبدالملك بن صالح»، وقد أرسل «داووُد بن حُبَيش» نائبًا عنه إلى أن حضر إلى «مِصر» وأدار شُؤونها بنفسه. ثم ما لبِث أن خرج «عُبَيد» إلى «الإسكندرية» لحرب الروم تاركا «عبدالله بن المُسيِّب» لإدارة شُؤون الحكم، حتى عاد إلى «مِصر» وظل فى حكمها إلى أن عزله الخليفة، فكانت مدة حكمه قرابة تسعة أشهر. ثم تولى «موسى بن عيسى العباسىّ».
«موسى بن عيسى» (١٧٩-١٨٠هـ) (٧٩٥-٧٩٦م) (الثالثة)
أرسل «موسى» ابنه «يَحيى» نائبًا عنه فى حكم «مِصر»، حتى حضر هو إليها واهتم بإدارة شُؤونها، وأصلح بين «أهل الحوف» من «قيس» و«يمن». وظل فى حكم «مِصر» إلى أن عزله الخليفة مرسلاً «عُبَيد الله بن المهدى» بدلاً منه، ليكون قد حكم «مِصر» قرابة عشَرة أشهر. وفى أيام «موسى» حدثت زلزلة عظيمة فى «مِصر» أسقطت رأس «منارة الإسكندرية» المبنية فى عهد البطالمة، التى تُعتبر إحدى عجائب الدنيا والتى شيدت على مثالها جميع المنارات.
«عُبَيد الله بن المهدىّ» (١٨٠-١٨١هـ) (٧٩٦-٧٩٧م)
تولى حكم «مِصر» مرة ثانية بعد عزل «موسى بن عيسى». أرسل «داووُد بن حُبَيش» نائباً عنه حتى وصل هو إلى «مِصر» وحكمها، ثم عُزل فيما بعد بقرابة عام وشهرين، وتولى من بعده «إسماعيل بن صالح».
«إسماعيل بن صالح» (١٨٢-١٨٣هـ) (٧٩٨-٧٩٩م)
هو «إسماعيل بن صالح بن علىّ بن عبدالله العباسىّ»، تولى حكم «مِصر» من قِبل «هارون الرشيد»، فجعل «عَوْف بن وَهْب» نائباً عنه حتى قدِم إليها. ويُذكر عنه أنه كان يتسم بالشجاعة والفصاحة ورجاحة العقل، كما كان أديباً. وقد استمر فى حكمه على «مِصر» حتى عُزل وحكم من بعده «إسماعيل بن عيسى»، فكانت مدة حكمه ثمانية أشهر تقريباً. وقد اختلف المؤرخون فى سنة توليه حكم «مِصر»: فمنهم من قال إنها كانت عام ١٨١-١٨٢هـ، ومنهم من ذكر أنها ١٨٢-١٨٣هـ.
وفى ذٰلك العام تنيح البابا «يوحنا الرابع»، البابا الثامن والأربعون فى بطاركة الكرسىّ الإسكندرىّ، فاجتمع الأساقفة والشعب وتشاوروا فيما بينهم عمن يصلح لاعتلاء كرسىّ «مار مَرقس الرسول». وذكر الأساقفة أنهم سمِعوا من «البابا يوحنا الرابع» قبل نياحته ذِكره لاسم «القَس مَرقس» وأنه هو من يجلس مِن بعده، فاتفقت كلمتهم على اختيار «القَس مَرقس» سكْرِتير «البابا يوحنا» ليكون بابا وبطريرك الكرازة المَرقسية. وكتبوا إلى «أنبا ميخائيل» أسقف «مِصر»، يُعلمونه باختيارهم «القَس مَرقس» وأن «البابا يوحنا الرابع» قد أعلم الآباء الأساقفة بذٰلك قبل نياحته، وبأن يعرض نيافته أمر سيامته أبا بطريركا على الحاكم. فجمع «أنبا ميخائيل» كبار الشعب وذهبوا إلى الوالى يطلبون مدبرًا آخر للكنيسة، فسأل عن اسمه، فقيل له: «مَرقس»، فأمر بكتابة اسمه فى الديوان، وأذن لهم بإقامته بطريركاً عوضاً «البابا يوحنا الرابع».
«البابا مَرقس الثاني» (٧٩٩-٨١٩م)
«البابا مَرقس الثانى» هو التاسع والأربعون فى بطاركة «الإسكندرية»، وتبدأ قصته عندما قام البابا «يوحنا الرابع» برحلة رعوية يتفقد فيها شعبه كانت لها أثر عظيم فى نُفوس الرعية التى وجدت راعيها يتنقل فيما بينها معلِّماً ومرشداً ومعزياً، ما أدى إلى التقارب الشديد بين البابا وأبنائه. وقد اهتم «البابا يوحنا» بالشباب، حتى إنه وجد شماساً شاباً يُدعى «مَرقس» كانت له معرفة كبيرة بالروحيات، فرح به وجعله سكْرِتيرا له. وقد حظِى الشماس «مَرقس» بمحبة الشعب وتعلقوا به، ففرٍح به البابا وزاد فى إكرامه ولم يجد «مَرقس» طريقا أخرى سوى أو يضاعف من خدمته وجُهوده، كما أنه ازداد تواضعا. وقد ذكر عنه أحد النساك الشُّيوخ فى «دَير القديس مقاريوس» بعد أن سِيم راهبا: «إن هٰذا الشماس يستحق أن يجلس على كرسى أبيه العظيم «مَرقس» البشير ناظر الإلٰهيات».
وحدث أنه بعد انتقال «أنبا جاورجيوس» أسقف بابلون من هٰذا العالم، أن طلب الشعب من «البابا يوحنا» أن يُقِيم «مَرقس» سكرتيره أسقفا عليهم، ففرح البابا لطلبهم إذ يعرِف صلاح هٰذا الإنسان واستحقاقه لنعمة الأسقفية، ولٰكن ما إن سمِع هٰذا الراهب الجليل بنية «البابا يوحنا» فى سيامته أسقفا، حتى توارى عن الأنظار ولم يستطِع أحد الوصول إليه، وهو ما اضطر البابا البطريرك إلى سيامة راهب آخر يُدعى «ميخائيل» أسقفا على بابلون. ظل «مَرقس» مختفيا، ما أثار حفيظة البابا عليه وأرسل رسالة إلى أحد الرهبان الشُّيوخ المتوحدين يعْلمه فيها بأنه ما يزال غاضبا على تلميذه الذى يحبه، فأجابه المتوحد برسالة أعلمه فيها بأن أمر هروب «مَرقس» من الأسقفية هو من الله لأنه سيجلس على كرسيّ «مار مَرقس الرسول» من بعده ويرعى الشعب. فرِح «البابا يوحنا» بتلك الكلمات، وظل يبحث عن تلميذه حتى وجده وأعاده إلى عمله سكْرِتيرا الذى أطاع أباه البطريرك ملازما إياه فى جميع انتقالاته حتى نياحته.
وحين علِم «مَرقس» باختيار الأساقفة والشعب له ليعتلى الكرسى المَرقسى حزِن جدًّا! ثم حاول الهرب مرة ثانية من تلك المسؤولية الجسيمة، قاصدًا الصحراء، حيث «دير القديس مقاريوس» فى «وادى هَبِيب». ولٰكن «أنبا ميخائيل» أرسل من يفتش عليه، حتى وجدوه وأرسلوه مقيَّداً إلى «الإسكندرية»!! فسِيم بابا وبطريركا باسم «مَرقس الثانى» فى عام ٧٩٩م، فى عهد الخليفة «هارون الرشيد».
وكان مساء الأحد الأول بعد رسامة ذٰلك الأب الجليل يوافق ليلة بَدء «الصوم الكبير»، فقام بالصلاة وشرح لشعبه الإيمان الأرثوذكسى، ثم اتجه إلى «دير الزجاج» للاعتكاف طوال أيام الصوم. وعند وصول «البابا مَرقس» الدير، وصلت إليه رسائل من «أنبا ميخائيل» تشير عليه بالعودة إلى «مِصر» بعد «عيدالفصح» ليلتقى واليها. وبعد مُضى أيام «الصوم الكبير» والاحتفال بـ«عيد القيامة»، حضر «البابا مَرقس» إلى فُسطاط «مِصر» ليسلِّم على الوالى، وقد صحبه «أنبا ميخائيل» وبقية الأساقفة المجتمعين معه، فلما وصلوا إلى دار الوالى… وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ