عيد القيامة المجيد
أهنئكم جميعًا بعيد القيامة المجيد المعروف بالعيد الكبير، كما أتقدم بالتعزية لأهالى شهداء الخصوص، راجيًا الرب أن يمنح الجميع كل صبر وتعزية فى هذه الأيام المباركة. منذ فجر التاريخ والبشرية تسعى إلى «الخلود»، وقد صارت القيامة أبرز علامة على هذا الخلود. ومع محاولات الملحدين إنكار وجود الله، والقيامة، وخلود الإنسان، معتبرين أن الوجود لا قيمة له، وأن الإنسان يحيا حياة تافهة لا معنى ولا هدف لها، إلا أنهم لم يستطيعوا إيجاد حل لأكبر مشكلة كانت تواجههم ألا وهى «الموت». وظل السؤال يتردد فى أذهانهم: ماذا بعد الموت؟ ولم يستطيعوا أن يتخطوا رهبة ذلك الموت.
وسنتحدث هنا عن مفهوم الخلود والقيامة والسماء فى بعض الحضارات القديمة وفى اليهودية والمسيحية والإسلام.
أولاً: الحضارات القديمة:
بعض الشعوب الوثنية التى كانت لها حضارات فهِمت «الخلود» على أنه تخلُّص الإنسان من الجسد وثِقله وقيوده؛ مما يجعله فى حالة من السعادة. وبهذا تكون فكرة «خلود نفس الإنسان» فكرة كائنة ومنتشرة.
ونجد أن السومريين والبابليين وصفوا «العالم الآخر» على أنه عالم مظلم ومرعب ليس فيه أى سعادة أو لذة بعد الموت. والناس فى هذا العالم متساوون. كذلك لا توجد فى معتقداتهم جنة أو نار، نعيم أو جحيم، فطغت على حياتهم صفة المادية والمتعة فى هذه الحياة.
ثانيًا: قدماء المصريين:
لم يكُن الموت عند قدماء المصريين هو نهاية الإنسان، وإنما يعقبه حياة جديدة يعيشها. فالاعتقاد بخلود الروح، والحياة بعد الموت كان مبدأً دينيًّا أساسيًّا فى حياتهم. فاعتقدوا ببعث الإنسان ثانية بعد موته ليحيا حياة الخلود، وصوروا صعود الروح إلى السماء على هيئة طائر يحلق إلى أعلى، فالموت فى نظر المصريين القدماء لم يكُن هو النهاية، وإنما بداية حياة جديدة.
وتقول قصة البعث التى نجدها مسجلة على البرديات وعلى جدران المعابد: إن سِتْ «إله الشر» قتل أخاه أوزوريس «إله الخير»، ومزق جثته ثم ألقاها فى نهر النيل، وجاءت إيزيس زوجته لتغوص فى مياه النيل لجمع أشلاء أوزوريس وأعادت إليه الحياة.
من هذه الأسطورة كوَّن قدماء المصريين معتقداتهم عن البعث والخلود فى الحياة الثانية، وكان البحث عن سر الخلود يشغل المصريين كثيراً، ليس فقط خلود الروح، ولكن أيضًا خلود الجسد.
ثالثًا: اليهودية:
تحدث الكتاب المقدس عن «الخلود» لا على أنه تحرر النفس من الجسد وبقاؤها أو أنه الدخول إلى عالم الموتى، بل على أنه قيامة وخلود للإنسان ككل روحاً وجسداً معاً. فهو يعنى الخلاص من حالة الموت وليس مجرد حالة من الوجود فى المستقبل. إنه السعادة التى يحياها الإنسان نتيجة الفداء وامتلاك الحياة الأبدية. إنه القيامة والحياة بعدها بالروح والجسد معاً.
أعلنت التوراة عن عقيدة الخلود من خلال عَلاقة الله بالإنسان، فقد خُلِق الإنسان على صورة الله ومثاله « فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقهم.» «التكوين 1: 27». وهذا يجعل الإنسان فى مرتبة أكثر كرامة وارتفاعاً عن باقى الكائنات التى خلقها الله؛ فحياته ليست مادية فقط تنتهى بموته، بل هى تتخطى حاجز الزمن.
وغيرت الخطيئة مصير الإنسان، فدخل الموت إليه، ولكن لم تفنَ الروح؛ إذ هى غير قابلة للفناء، وإنما انفصلت عن الجسد، وأصبحت فى حالة لا يمكن القول إنها «حياة»، فالروح تذهب إلى الهاوية، حيث يُقيم الموتى فى حزن وبؤس، وحيث لا يوجد فرح أو سعادة، كما جاء فى سفر أيوب البار:« يقضون أيامهم بالخير. فى لحظة يهبطون إلى الهاوية». «أيوب 21: 13».
تعددت تسميات «الهاوية» فى التوراة، فأُطلق عليها فى سفر أيوب «أرض ظلمة وظل الموت». «أيوب 10: 21»، وقال عنها داوود النبى:« وادى ظل الموت». «المزامير 23: 4»، وأيضًا عُرفت بالجُبّ وأسافل الأرض، كما قال النبى حزقيال: «أُهبطكِ مع الهابطين فى الجُبْ إلى شَعْب القِدَم، وأُجلسكِ فى أسافل الأرض». «حزقيال 26: 20».
ونعرف من إنجيل معلمنا مارمرقس الرسول أنه ظهرت جماعة من اليهود تسمى «الصَّدوقيين»، كانت لا تؤمن بقيامة الأموات ولا بالروح ولا بالملائكة:« وجاء إليه قوم من الصَّدوقيين، الذين يقولون ليس قيامة… ». «إنجيل مرقس 12: 18»، وتذهب إلى أن عقاب الأشرار وإثابة الأبرار إنما يحصُلان فى حياتهم. وقد ظهرت أيضاً قُبيل عهد المسيح فرق من اليهود تؤمن بالقيامة وبالعقاب وبالملائكة، ومنهم السامريون.
أمّا الفريسيون وهم إحدى الفرق اليهودية، فيؤمنون بالقيامة وبالروح وبالملائكة على نقيض الصَّدوقيين.
ونجد فكرة القيامة عند اليهود واضحة من حوار مريم ومرثا أختَى لعازر مع السيد المسيح عن أن أخاهما الذى مات سيقوم فى قيامة الأموات:« فقالت مرثا ليسوع: يا سيد، لو كنت ههنا لم يمُت أخي! لكنى الآن أيضا أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيكَ الله إياه». قال لها يسوع:« سيقوم أخوكِ». قالت له مرثا:« أنا أَعلم أنه سيقوم فى القيامة، فى اليوم الأخير». «إنجيل يوحنا 11: 21 -ٍ 24».
رابعًا: المسيحية:
تحدث السيد المسيح له المجد كثيراً عن خلود الإنسان وقيامة الأموات.
فقد أعلن أن هناك قيامة للأموات عندما قال:« رجال نينوى سيقومون فى الدين مع هذا الجيل ويدينونه، لأنهم تابوا بمناداة يونان. وهوذا أعظم من يونان ههنا!ّ». «إنجيل متى 12: 41»، وأيضا عندما كان يتحدث مع الصَّدوقيين الذين لا يؤمنون بقيامة الأموات، وأما من جهة الأموات إنهم يقومون:« أفما قرأتم فى كتاب موسى، فى أمر العليقة، كيف كلمه الله قائلاً: أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب؟ ليس هو إله أموات بل إله أحياء. فأنتم إذًا تضلون كثيرًا!». «إنجيل مرقس 12: 26، 27».
وكما يُقام الأبرار سيُقام الأشرار أيضاً، ولكن ليس للمجد بل للدينونة. وقد أعلن السيد المسيح فى الكثير من المرات عن قيامة الأبرار ودينونة الأشرار، منها: مثل الغنى ولعازر كما جاء فى إنجيل معلمنا لوقا، فبعد موت الغنى ذهب إلى الهاوية والعذاب، فى حين ذهب لعازر مع إبراهيم، فمن المثل نعرف أن بينهما هُوَّة عظيمة لا يقدر أحد أن يجتازها.
وأيضًا ذكر السيد المسيح فى الموعظة على الجبل أن هناك جَهنم تنتظر الأشرار:« خير لك أن يَهلِك أحد أعضائك ولا يُلقَى جسدك كله فى جَهنم». «إنجيل متى 5: 29». وذكر عن الأشرار أنهم سيذهبون إلى عذاب أبدى والأبرار إلى حياة أبدية. «إنجيل متى 25: 46 ».
فى القيامة يُعطى الإنسان طبيعة جديدة، فهو سيأخذ جسداً له سمات مختلفة عن جسده الذى عاش به على الأرض. فمع أن جسد الإنسان قابل للموت وللمرض وللضعف إلا أن جسد القيامة لا يموت، ولا يمرض، ولا يضعف. وهذا ما ذكره معلمنا بولس الرسول:« هكذا أيضا قيامة الأموات: يُزرع فى فساد، ويقام فى عدم فساد. يُزرع فى هوان ويقام فى مجد. يُزرع فى ضعف، ويُقام فى قوة». «رسالة كورنثوس الأولى 15: 42، 43»، أى جسدًا غير قابل للفساد ممجداً قوياً روحانياً خالداً.
والسماء مكان رائع لم يستطِع الإنسان تخيله أو إدراكه، حتى إن معلمنا بولس الرسول فى رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس حينما أراد الحديث عنه قال:« ما لم ترَ عين، وما لم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان: ما أعده الله للذين يحبونه». «2: 9».
خامسًا: الإسلام:
ويقدم الإسلام هذا الفكر ويوضح مكافأة الصالحين وعقاب الأشرار.
يعرض القرآن صورًا متباينة لأحداث القيامة، ففيها صور تفيض بالرحمة والبشرى للناس، ومنها ما يصور الأحداث الصعبة والمصير المفزع الذى ينتظر الأشرار فنجد:
هناك يوم تقوم فيه الأرواح:« يَومَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا» سورة النبأ آية ٣٨، وأيضا قوله:« هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِى ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ وقُضِىَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» سورة البقرة آية ٢١٠، و« يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ» سورة إبراهيم آية ٤٨، وأيضاً صورة الأرض المشرقة بنور الله:« وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا» سورة الزمَر آية ٦٩.
وأيضًا جاء فى صحيح البخارى كتاب تفسير القرآن سورة السجدة آية 17 باب قوله:« فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ». حدثنا على بن عبد الله، حدثنا سفيان عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة عن النبى قال:« قال الله- تبارك، وتعالى-:« أعددتُ لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». قال أبو هريرة اقرَأوا إن شئتم « فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ».
ولكن القيامة مرعبة للأشرار فيصف القرآن ذلك فى سورة الحج فى الآيتين 1، 2: « … إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىءٌ عَظِيمٌ يَومَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيْدٌ»، وفى سورة عَبس الآيات ٣٣-٣٦:« فَإِذا جَآءَتِ الصَّاخَّةُ يَومَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيْهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيْهِ وصَاحِبَتِهِ وَبَنِيْهِ».
القيامة إذًا هى دعوة إلى أن نحيا بالمحبة.
وفى عيد القيامة المجيد يُرسل لنا السيد المسيح رسالة إلى كل إنسان مذكراً إياه بأن يجعل سعيه الأول نحو الخلود والأبدية، لأنها هى الحياة والسعادة الحقيقية:« لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم». «إنجيل متى 6: 33»، والسعى كما يُعلمنا السيد له المجد بنفسه هو أن تكون لنا المحبة بعضنا نحو بعض كمثال محبته لنا:« وصية جديدة أنا أُعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضاً. كما أحببتُكم أنا.. تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا». «إنجيل يوحنا 13: 34».
ًحينما سُئل السيد المسيح عن الوصية العظمى فى الناموس، قال:« تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك. هذه هى الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء». «إنجيل متى 22: 37 – 39». وهنا نجد أن السيد المسيح اعتبر محبة الإنسان لأخيه الإنسان تُعادل محبة الإنسان لله.
يقولون: إن أردت أن ترى السماء، فلتحى بين أُناس تملأ قلوبهم المحبة.
وإن أردت أن تعرف الجمال الحقيقى، فانظر داخل قلوب تنبض بالمحبة لمن حولهم.
وإن أردت أن تتذوق السعادة، فأحبب مَن حولك، واعمل على إسعادهم دون أن تنتظر شيئًا، وستكون مكافأتك من الله كل المحبة.
ويقول الشاعر إيلِيَّا أبوماضى:
ما دَامَ قَلْبُكَ فِيْهِ رَحْمَةُ لأخِِ عَانٍ فَأَنْتَ امْرُؤٌ فِى قَلْبِكَ اللهُ
الرب يبارك حياتنا جميعا، ويملؤها بالمحبة لكل إنسان، تلك المحبة القادرة أن تحول الأرض سماءً فتجعل من البشر ملائكة.
الله يحفظ بلادنا مصر التى جاء عنها فى الكتاب أنها كـ«جنة الله».