تحدثنا فى المقالة السابقة عن تلك الجُدران التى يبنيها الإنسان داخل ذاته، من عدم إدراك لإمكاناته الحقيقية، وأن هٰذه الجُدران تقف عائقـًا لا يستطيع أن يتخطاها فتضيع الحياة هباءً؛ فحياة الإنسان هى انعكاس لأفكاره عن ذاته ورؤيته لها .
ومن الجُدران التى لا يتوقف الإنسان عن بنائها فى حياته هى تلك التى تفصله عن الآخرين؛ فبينما تكون أعمق رسالة فى حياة البشر هى هدم الجُدران التى تفصل الناس بعضهم عن بعض، نرى بعضـًا منهم وقد أخذ يعمِّق فى وضع ما يعزله عن البشر.
وأحد هٰذه الجدران هو تقوقع الإنسان حول نفسه وآرائه وظروفه، دون مراعاة للآخرين وأحوالهم التى قد تكون أدق وأقسى؛ فيحدث التصادم الذى يؤثر سلبـًا فى حياة ومعاملات كل منهم نحو الآخر.
أعجبتنى إحدى القِصص التى قرأتها ووقعت أحداثها فى عام ١٩٩٥م . ففى إحدى الليالى، وفى أثناء إبحار إحدى السفن الحربية الأمريكية العملاقة بسرعة كبيرة، وكان ذٰلك بالقرب من السواحل الكندية، أسرع قبطان السفينة إلى جهاز اللاسلكى عندما أظهر الرادار أن السفينة تتجه نحو الاصطدام بجسم هائل . فجاء هٰذا الحوار بين قبطان السفينة وبين الجهة الأخرى التى سيقع التصادم معها، فقد بدأ قبطان السفينة النداء قائلاً: هنا قبطان السفينة الحربية الأمريكية، مطلوب تغيير الاتجاه بمقدار ١٥ درجة إلى الجنوب، كى لا يحدث اصطدام؛ أكرر: تغيير الاتجاه بمقدار ١٥ درجة إلى الجنوب لتفادى الاصطدام. حوّل. وتلقى الإجابة من الجهة الأخرى تقول: وصلت رسالتكم، هنا السلطات الكندية، الطلب غير كافٍ؛ ننصح بتغيير اتجاه سفينتكم بمقدار ١٨٠ درجة. حوّل. وفى انفعال أجاب القبطان : كيف هٰذا؟! أنا أطلب منكم تغيير اتجاهكم بمقدار ١٥ درجة فقط نحو الجنوب كى لا يقع الصدام! أمّا عن تغيير اتجاه سفينتنا، فلا يُعد هٰذا من شأنك، ولٰكننا سنغير اتجاهنا بمقدار ١٥ درجة نحو الشَّمال لكى نتفادى الاصطدام أيضـًا. حوّل . فجأت الإجابة من الطرف الآخر فى تأكيد لطلبهم: تغييركم هٰذا غير كافٍ؛ ننصح بتغييره بمقدار ١٨٠ أو على أقل تقدير ١٣٠ درجة . حوّل . ثار قبطان السفينة على متحدثه قائلا: لماذا كل هٰذا الجدال والإصرار على إصدار الأوامر، دون أن تقوم أنت بتفادى التصادم بالمقدار عينه؟ نحن سفينة حربية أمريكية، فمن أنتم؟! وجاءت الإجابة صادمة: نحن حقل بترول عائم! ولا نستطع الحركة . احترس ! إلا أن التنبيه جاء متأخرًا بسبب الوقت الذى فُقد فى الحوار، فحدث الصدام بين السفينة والحقل البترولى.
لقد كانت المشكلة التى سببت التصادم هى اعتقاد القبطان أن الجهة الأخرى لها القدرات نفسها التى لديه، وأنه ليس من حقهم أن يُصدروا الأوامر، وأيضـًا لم يحاول فَهم وإدراك طبيعة الآخر معتمدًا على صورة ذهنية محددة، دون وضع افتراضات أخرى. فالقبطان توقع أنه يتحدث إلى قائد سفينة أخرى عملاقة، ولم يضع فى حُسبانه أو يتوقع وجود بدائل أخرى. لذٰلك، حاول أن تُدرك طبيعة الآخر كى لا تصبح صورته لديك جدارًا يُفقدك القدرة على محبته والتعامل معه. وأيضـًا حاول أن تكون واضحـًا للآخرين فى أقوالك وتصرفاتك تجاههم، فتساعدهم على التواصل بك وتوضيح ما يُساء فَهمه فتتحول الجُدران إلى جُسور تعمّق المحبة والتواصل الإنسانى.