“عرفته رجلـًا يافعـًا قويـًّا، خط الشيب رأسه ومسحه برهبة لا تخفى على من ينظر إليه الوهلة الأولى.. ومع أن عينيه تعكسان طفولة بريئة، إلا أنهما تحملان عمقـًا لا يستطيع أحد إدراكه بمجرد النظر إليهما.. نظرتُ إلى صديقى وهو جالس يرتشف ببطء قهوته، فى محاولة منى ـ أدرك أنها ستنتهى مثل جميع محاولاتى السابقة بالفشل ـ لاكتشاف سر الحزن الذى يملأ حياته، وبالفعل لم أستطِع؛ فمحاولة اكتشاف حقيقة ما يحمله من ألم أو سعادة هو درب من الخيال، أو محاولة إبحار فى قارب بلا شراع.. إنه من ذٰلك الطراز الذى يحمل حكمة العالم فى أعماقه، فتجده إنسانـًا يستحق أن يطلَق عليه (البعيد النظر)”.
استعادت هٰذه الكلمات فى ذاكرتى رحلة الحياة التى نسير فى دروبها، ونحن فى طريقنا مرتحلون، نلتقى أنواعـًا متعددة ومختلفة من البشر.. لٰكننا لا نجد أنفسنا إلا متوقفين أمام هؤلاء الذين يُطلق عليهم “البعيدو النظر”.
الإنسان “البعيد النظر” هو شخص قرر ألا يحكم على الأمور فى لحظة وصول الكلمات إلى أذنيه؛ بل يسمعها، ويفهمها، ويتأنى، إلى أن يصل إلى أقرب ما يمكن أن يكون إلى حقيقة الأمور.. إنه ذاك الإنسان الذى قرر أن يستخدم أهم هبات الله للإنسان وأخطرها: “العقل”.. فكما ذكر أحد الفلاسفة أن العقل هو: “أنبل، وأكمل، وأبدع ما يمتلِكه الإنسان”.. لذٰلك، يا عزيزى القارئ، لنستخدم عقولنا جيدًا؛ فكما قيل: “لا يكفى أن تكون صاحب عقل جيد، المهم أن تستخدمه جيدًا”.
فبُعد النظر هو قدرة الإنسان على إدراك ما يمكن أن تؤول إليه الأمور من خلال ما يسمع، وما يقرأ، متفحصـًا إياها بدقة، مبتعدًا عن سطحيتها، ومحاولـًا ربط الأحداث معـًا، وهٰكذا تتكون لديه رؤية لما يمكن أن يحدث تباعـًا.. لذٰلك صاحب النظر البعيد هو شخص صاحب رؤية اكتسبها من تلك الحياة العميقة التى يحياها.
ويحتاج اكتساب بُعد النظر إلى أن يمتلِك الإنسان الصبر، والابتعاد عن التهور والاندفاع فى الأمور، كى يتمكن من التفكير فى هدوء فيما يمر من أحداث فى حياته وحياة الآخرين؛ فتلازمه الحكمة فى اتخاذ القرارات.. والبعيد النظر يصبِر على ما يتعرض له من مشكلات، لئلا تتفاقم فى الغد إن تسرع.. ومثل هٰذا الإنسان لا نجده إلا واسع الأفق، صديقـًا للكتاب؛ فكما يقولون: “القراءة تجعل الإنسان واسع الأفق، بعيد النظر” .
والإنسان ذو “النظرة البعيدة” هو من يحمل فى داخله التواضع الذى يجعله يتعلم من كل ما يمر به: من بشر، وأحداث، وأشياء؛ تمكنه من اكتساب تلك الخبرة التى تمنحه الحكمة، والنظر الثاقب البعيد السديد.
كُن، إذًا، يا عزيزى، بعيد النظر واسع الأفق، بتَرحالك فى أفكار البشر من خلال كتاباتهم وتدريب عقلك على النظر إلى ما هو وراء معانى الكلمات، وبصبرك وعدم تسرعك، وبتواضعك فى التعلم من الجميع.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسىّ