“الحياة” و”المبادئ”: كلمتان ترتبطان إحداهما بالأخرى في تناسق عجيب، وكأن كل منهما تُلقي بأوراقها الخضراء وثمارها الناضجة على رفيقتها! فإن كانت حياة ـ كما يراها الكاتب المفكر الأديب اللُّبنانيّ “جُبران خليل جُبران” ـ وهي بلا عمل تماثل الموت؛ فالحياة بلا مبادئ ما هي إلا رحلة تيه في دُروبها بعد أن سقطت عنها أجمل معانيها؛ وأحد هٰذه المبادئ المهمة التي تشدد من أزر الإنسان هو: “لا تتوقف، جرِّب”؛ وهنا أتذكر ذٰلك التساؤل الذي طرحه الرسام الهولنديّ “ڤِنْسِنْت ڤان جوخّ”: “كيف تكون الحياة، إن لم نكُن نملِك الجراءة على المحاولة؟!”.
وقفتْ على خشبة المسرح بعد أن خلعت حذاءها، في أصعب اختبار مر بها في حياتها، ففي هٰذه الليلة سيُحكم على محاولاتها بالنجاح أو بالفشل. حاولت أن تكون رابطة الجأْش وهي تواجه المحكّمين الأربعة في المسابقة التي قررت خوضها؛ ابتدرها أحدهم بسؤالها عن اسمها، فأجابته: “ماندي هارڤن”؛ ثم أشار إلى شابة أخرى وسأل عن هُوَيَّتها وعلِم أنها مترجمتها الخاصة. ملأتني الدهشة، وتساءلت: لماذا تحتاج “ماندي” إلى مترجمة مخصوصة وهي تتحدث الإنجليزية التي يتحدثها المحكّمون؟! فالبَرنامَج هو أحد البرامج الشهيرة التي يتقدم إليها الموهوبون لعرض مواهبهم.
لم تطُل دهشتي كثيرًا، فسَُِرعان ما استطرد المحكّم قائلاً: أهلاً بكِ “ماندي”. أعتقد أنكِ صماء!! وهنا أدركتُ معنى “مترجمة”: فهي مترجمة تتحدث إلى “ماندي” بلغة الإشارة لتخبرها بما يقوله الآخرون لها لتتمكن من إجابتهم. تُجيب “ماندي” المحكّم عن سؤاله: نعم، لقد فقدتُ حاسة السمْع عندما كنت في الثامنة عشْرة؛ ثم أخَذا يسترسلان في الحوار الذي كشف أن “ماندي” هي فتاة وُلدت سليمة تمامًا دون أيّ إعاقة، ومارسَت الغناء منذ أن كانت في الرابعة، ثم أصيبت بخلل في النسيج الضامّ لطبلة الأذُْن، وبمرور الوقت تدهورت حالتها حتى فقدت القدرة على السمْع تمامًا عند الثامنة عشرة؛ لتستمر صماء ما يزيد عن عشْر سنوات إلى الآن، وهي في التاسعة والعشرين. تضيف “ماندي” أنها لما صارت صماء قررتْ ترك الموسيقى ـ ربما في محاولة منها على التأقلم مع ظروف حياتها الجديدة ـ لٰكنها تقول: والآن عدتُ إلى الغناء، مستعينةً بالذاكرة العضلية، وبالموازين المرئية، واثقةً بنبرة صوتي!! وهنا سألها المحكّم عن سر خلعها الحذاء، وهل ذٰلك كي تشعر باهتزازات الإيقاع الموسيقيّ، فتجيبه “ماندي” بالإيجاب، موضحةً أنها تُدرك الإيقاع ونبض الموسيقى من خلال إحساسها بالأرض. وللحديث بقية …
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ