ماذا لو تخيلنا أننا أصبحنا في عالم لا يستطيع الفرد فيه أن يتواصل هو ومن حوله، أو يتصل به؟ أعتقد أننا بلا شك سنجد أن كل فرد منا سيحيا في جزيرة خاصة به، وعالم لا يُدرك فيه إلا ما علمَته إياه الأيام، عالم قاصر فكريًا، ممتلئ بمشكلات على كل فرد فيه أن يفك شفراتها ويحُلها بمفرده؛ مما يجعل الحياة قاصرة وصعبة.
إلا أن الحياة ليست هٰكذا، بل هي تواصُل دائم بين الإنسان والله، والإنسان وأخيه الإنسان من: أفراد أسرته، وزملائه في الدراسة والعمل، وجيرانه، كل من يلتقيه في مجتمعه. كذٰلك هو يعيش حياة ينمو فيها جسديًا ونفسيًا وروحيًا.
ويُعد الحوار من أهم أدوات ومتطلبات العصر الذي نحياه؛ فهي أداة العقل لتعميق الأفكار وصَقلها؛ وطريق للتواصل بين البشر الذي يحمل كل منهم خبرات ومعلومات علمية وحياتية. ومن ثَم يحدث: تبادل للمعلومات والخبرات، والتعرف إلى الآخرين، والتقارب بين وِجهات النظر. والحوار الجاد المثمر الذي يهدُف إلى التقارب حتمًا يؤدي إلى تضييق المساحات الشاسعة بين أفراد العائلة الإنسانية، وحل كثير من الخلافات والقضايا، في حين يعود الفشل في حياة كثير من الناس إلى فقدانهم القدرة على إقامة حوار جيد. لذٰلك كلما ازدادت مساحة الحوار ازدادت المساحات المشتركة.
أيضًا يُساعد الحوار في أن يصل الإنسان إلى أقرب درجة من الحقيقة، فالحقيقة المطلقة هي خاصة بالله وحده، ولٰكننا نسعى إلى إدراك بعض منها بعديد من الطرق والأساليب وأحدهم: الحوار. إلا أن الحوار يحتاج إلى اكتساب القدرات التي تجعل منه حوارًا مثمرًا بنّاءً يحقق مصلحة الجميع.
قواعد الحوار البناء
للحوار البنّاء قواعد أساسية؛ بأن يكون:
هادفًا، ونقاشًا لا جدالًا، وواضحًا بلا غموض، وبعيدًا عن أحكام سابقة، وبعيدًا عن العراك، وبحثًا عن القواعد المشتركة، وتقييمًا للأفكار لا الأشخاص، وبعيدًا عن النصائح، وبعيدًا عن امتلاك الحقيقة، وبعيدًا عن التعميمات، وبعيدًا عن تفسير الأمور، ومحتويًا على الأَولويات، ومؤسَّسًا على الاستماع الجيد، ومحتويًا على تقديم الوقت والانتباه، وممتزجًا ببعض الفكاهة، وبعيدًا عن كثرة الكلام.
هادفًا
حدِّد هدف الحوار التي تُقِيمه حتى يمكنك الوصول إلى نتائج جيدة؛ فحوار من دون هدف نبغي الوصول إليه هو إهدار للوقت، ويُحدِث كثيرًا من التخبط، ولن تصل فيه إلى أيّ نتائج مثمرة. ويعبِّر الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عن هٰذا؛ فيقول: “إذا لم تتحدد قواعد أيّ حوار ومقاصده، ارتبك سياقه وضاعت نتائجه.”.
نقاشًا لا جدالًا
وفي هٰذا الإطار، اجعل الحوار الذي تُقِيمه مع الآخر هو حوار “نقاش” لا حوار “جدَل”؛ فحين تناقش يكون دافعك إثراء الأفكار؛ أمّا الجدَل فهو وسيلة لإنهاء الحوار لمصلحة فكرة، أو شخص، أو موقف؛ دون الاستعداد الداخلي الحقيقي للاستفادة من أفكار الآخر بجدية، مما يؤدي في النهاية إلى اتساع وتعميق الخلافات بين البشر. وفي هٰذه الحالة يُطلَق على الحوار (بالعامية) أنه حوار “طَرَشان”؛ أيْ لا يستطيع الفرد فيه أن يُصغي إلى الآخر؛ فكلٌّ منشغل بالدفاع عن أفكاره، وتفنيدالآراء الأخرى دون أن يستمع إلى ما يُقال.
واضحًا بلا غموض
لا تكُن غامضًا، وقدِّم الفرصة إلى الآخر ـ دون تصنُّع ـ في أن يعرف آراءك؛ فالغموض الذي يكتِنف الشخصية يجعل الآخرين يقتربون بحذر، أو يبتعدون تمامًا.
وأيضًا حاول أن تتعرف الشخصيات التي تحاورها لتكون أكثر تأثيرًا، ولكي يمكنك إيصال أفكارك بالأسلوب الذي يمكن فَهمه وقَبوله منهم. فكلما اتسعت معرفتك عنهم ازدادت فرصة الحوار الوديّ البنّاء الذي لا يجرح؛ فأسلوب الحوار يتبدل بتنوع الشخصيات واختلافها. لذا افهم أفكار الآخر الذي تحاوره، ووِجهات نظره، وشخصيته؛ لتستطيع أن تحاوره حوارًا بناءًا ناجحًا يصل إلى تحقيق الأهداف المنشودة.
بعيدًا عن الأحكام السابقة
إن الحوار الذي يبدأ بالأحكام المُسْبق إليها قبله غالبًا ما يؤول إلى الفشل، إذ يُحدد الفرد النتائج قبل أن يبدأ في الحوار؛ فيكون الحوار هو مجرد محاولة للوصول إلى هٰذه النتائج دون غيرها! وفي أحيان كثيرة تكون هٰذه الأحكام عن خبرة شخصية، أو تعميمًا لموقف أو نظرية قد تنطبق أو لا تصلح في هٰذا الموقف.
بعيدًا عن العراك
الحوار ليس مجالًا لانتصار شخص وفشل آخر، ولا يهدُِف إلى تصنيف البشر إلى منتصرين ومهزومين؛ إنه ليس معركة. فنحن حين نتحاور، فهٰذا لا يعني أننا نتصارع أو نتعامل من منطلق العداء؛ لأن هٰذا لا يؤدي إلا إلى الجفاء، والتباعد، والهدم؛ دون الوصول إلى حلول أو اقتناعات.
المعارك تركز على إخضاع الآخر. وهناك من يحاول إقناع نفسه أنه يتحاور إلا أنه يسير على نهج المعركة في محاولة إقناع الآخر بصحة وجهة نظره التي يعتنقها في مقابل خطأ فكر الآخر؛ مستخدمًا كل الوسائل، واضعًا نصب عينيه أن هٰذا الانتصار يؤدي إلى النجاح؛ وهو ما ليس حقيقيًا.
بحثًا عن القواعد المشتركة
ابحث دائمًا عن الأفكار المشتركة بينك وبين الآخرين لتستطيع أن تبدأ حوارًا يصل بك إلى فَهم أعمق وحلول أفضل. ضَع في فكرك أن البشر مختلفون ولكنهم ليسوا أعداءً، وأن هناك ما يجمعهم. يقول أنطوني روبِنز ـ كاتب ومتحدث أمريكيّ ـ عن الحوار الفعال: “لكي تتخاطب والآخرين بطريقة فعالة، يجب عليك أن تُدرك أننا جميعًا مختلفون في الطريقة التي نفهم بها العالم، ونستخدم هٰذا الفهم كدليل يُرشدنا إلى الاتصال بالآخرين.”. لذا فدورك أن تصل إلى ما هو مشترك أولًا، ثم تحاول بالحوار الوصول إلى مساحات مشتركة أكبر حتى لا تصل إلى التنافر، وإدراك أننا جميعنا مختلفون بعضنا عن البعض في النشأة والفكر والمعتقدات، واعتبار هٰذا ميزة إيجابية لا سلبية؛ فمن خلال هذا الاختلاف نتكامل جميعًا في الرؤية والعمل؛ لنصل إلى أفضل النتائج.
تقييمًا للأفكار لا الأشخاص
يجب أن يكون التقييم والرأي مرتبطين بالمواقف والأفكار لا بالأشخاص؛ فعندما تقيِّم فكرة، ابتعد عن أيّ انتقادات شخصية مباشرة إلى الأشخاص؛ فهٰذا هو أسهل الطرق إلى خسارة الآخرين. أيضًا ابتعد عن النقد الذي يسبب الحرج لمحدثك؛ ليكن تركيزك في الحوار وليس الأشخاص. ومتى أردت أن تنقُد، فلتنتقد الأفكار لا الأشخاص.
بعيدًا عن النصائح
الأشخاص لا يَقبلون النصائح بيسر وسهولة عندما تكون في العلن؛ فالنصيحة تحمل في طياتها إبراز أخطاء الشخص وعيوبه؛ وهو ما قد يسبب له الحرج. كذٰلك فإنها تعني استعلاء مقدِّم النصيحة على الآخرين؛ وإن لم تعبر كلماته عن هٰذا مباشرة. لذا ابتعد عن موقع الناصح والواعظ والمعلم في حديثك للناس، حتى لا ينفرون ويبتعدون.
بعيدًا عن امتلاك الحقيقة
إن أكبر العراقيل التي تواجه المتحاورين هو اعتقاد كل منهم أنه وحده من يعرِف الحقيقة، أو أنه الأكثر فهمًا لما يدور! فمِثل هذه الحوارات ينتهي بالفشل والعداء. لا أحد يملِك كل الحقيقة بمفرده، فكل منا يُدرِك أو يرى جانبًا منها، وحين نتحاور نحاول استكمال الصورة معًا.
بعيدًا عن التعميمات
أحد أخطر أسباب فشل الحوارات هي إطلاق التعميمات على الأفكار أو الأشخاص، وهذا يؤدي بدوره إلى إطلاق أحكام سابقة؛ فتتسع دوائر الخلاف.
بعيدًا عن تفسير الأمور
إذا واجهْتَ ما هو غامض في الأفكار أو التعبيرات، لا تتردد في طرح الأسئلة لاستيضاح الأمور من قائلها؛ فربما تنطوي كلماته على معانٍ أخرى لم ترِد إلى ذهنك. وإن أدركتَ معنًى معينًا من الحديث، تحقَّق ما فهِمتَه من محدثك، وهل كان هٰذا ما يقصِده أو لا. فهٰذا يجنبك كثيرًا من المشكلات وسوء الفَهم. لذا كُن صبورًا متفهمًا لما يُقال خلال الحوار دون تسرع في الحكم على معاني الألفاظ والكلمات، بل بالسؤال المباشر الواضح عن المعنى؛ فكثير ما يصعُب التعبير عن الأفكار بالكلمات.
محتويًا على الأَولويات
اهتم بوضع أَولويات الحوار طبقًا للأهداف المراد تحقيقها، ولا تسمح بالتطرق إلى أمور ثانوية لا تُفيد بل قد تُفسد الأمر كله.
مؤسَّسًا على الاستماع الجيد
يقولون: “إن بعض القول فن، فاجعل الإصغاء فنًّا.”. ويذكر الكاتب القَصصيّ آرنِسْت هِمِنجواي: “إذا تكلم الناس فاستمِع بتركيز، فمعظم الناس لا يستمع.”. الحوار المثمر يحتاج إلى مستمع جيد. فكما يقولون: إن الله خلقنا بأذنين وفم واحد، لكي ندرب أنفسنا على الاستماع أكثر مما نتحدث. فالإنصات إلى الآخر يهبك الفرصة جيدا لأنْ تفهم ما يقصِده؛ وبذٰلك يمكنك تقديم أفكارك بأسلوب أعمق وأكثر دقة فتزداد فرص الوصول إلى قواعد مشتركة بطريقة أسهل وأكثر إيجابية. وهٰذا الأمر يرتبط بثقة الإنسان بنفسه، فكلما ازدادت ثقته، ترك مساحة أكبر للآخرين للتعبير عن أفكارهم وآرائهم معطيًا لهم كل الاهتمام.
محتويًا على تقديم الوقت والانتباه
قدِّم إلى الآخرين الشعور بأنك تحترمهم وتقدرهم؛ من خلال بعض التصرفات البسيطة خلال الحوار. تحدَّث إلى الآخر واستمِع له وأنت تنظر إليه، ولا تنظر كثيرًا في الساعة؛ فإن هٰذا يُعطي انطباعًا أنك ملَلتَ الشخص الذي يحدثك. أمّا النظر في الأوراق الموضوعة أمامك يقدم انطباعًا بعدم الاهتمام.
ممتزجًا ببعض الفكاهة
يذكر الكاتب “ديل كارنيجي” مدير معهد كارنيجي للعَلاقات الإنسانية عن الحوار: “امزِج حديثك بالفكاهة، واجعلها تأتي بأسلوب طبيعيّ غير مصطنَع.”. إننا جميعًا نسعد بالكلمات المرحة التي تخلق جوًّا من الألفة والتقارب بين الناس، وتُكسِب انتباه الجميع وحبهم. ولا تتجَهَّم في الحوار حتى لا يشعُر الآخرون برفضك لهم ولأفكارهم. وتذكر أن الابتسامة تُكسِب الحوار نوعًا من الارتياح الذي يؤثر بالإيجاب فيمن حولنا.
بعيدًا عن كثرة الكلام.
يقولون: “إننا نُطيل الكلام عندما لا يكون لدينا ما نقوله!”. فكُن مركزًا في أفكارك وكلماتك، محاولًا التعبير عنها في غير إسهاب يتسبب في تشتيت المتحاورين معك. فكثرة الكلام دليل على أن المتحدث يفتقد القدرة على التعبير عن أفكاره، أو أنه ليس لديه ما يقدمه من أفكار. أتمنى حوارات ناجحة مثمرة للجميع.
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ