بدأنا الحديث في المقالة السابقة عن الخليفة “المعتصم” الذي تولى الحكم من بعد أخيه “المأمون”، وكيف أنه قدَّم “الأتراك” من الجنود على “العرب” حتى صار لهم نُفوذ وشأن كبير في أمور الدولة، ثم انتقال الخليفة من “بغداد” إلى “سامَرّاء” بعد ما أثاره الجنود الأتراك من مشكلات ونزاعات. وعرضنا لبعض الثوْرات منها: ثورة “الزُّط”، و”بابَك الخُرَّميّ”، و”أبي حرب المبرقَع”؛ ثم مؤامرة “عُجَيف بن عَنْبَسة”، وخيانة “الأفشِين” وموته في سِجنه.
اهتمامات داخلية
كان أول وُزراء “المعتصم” هو “الفضل بن مروان” الذي أبلغه خبر وفاة “المأمون”، وظل وزيرًا مدة عامين، ولٰكنه استقل بأمور الحكم وإدارة شُؤون البلاد بعيدًا عن الخليفة؛ فوصلت أعماله إلى “المعتصم” فعزله، ووضع “أحمد بن عمار الخُراسانيّ” بدلاً عنه ثم عزله إذ كان لا يجيد القراءة والكتابة! استوزر “المعتصم” “مُحمد بن عبد الملك” المعروف بـ”ابن الزيات” الذي أحسن إدارة شُؤون البلاد واستمر في وظيفته حتى تُوُفِّي “المعتصم”. ويُذكر عن “ابن الزيات” أنه: “كان عالمًا، أديبًا، يُجيد خدمة الملوك، وكان يقول الشعر، ولٰكنه كان شديدًا في معاملة الوُلاة الذين يصادرهم لارتكابهم الخيانة في شُؤون وظائفهم.”.
“أحمد بن أبي دؤاد”
كان “أحمد بن أبي دؤاد الأياديّ” قريبًا إلى “المعتصم” حتى إن المؤرخين قالوا عنه: “وكان من «المعتصم» كـ«يَحيى بن أكثم» من «المأمون»: ولّاه قضاء القضاة، واختص به حتى كان لا يفعل فعلاً باطنًا ولا ظاهرًا إلا برأيه؛ فكان له في حياة «المعتصم» مركز لا يدانيه فيه أحد.”. وقيل إنه اقترب أولاً إلى “المأمون” الذي أُعجب برزانة عقله وحسن منطقه عن طريق “يَحيى بن أكثم”؛ فقرّبه إليه وكان له آنذاك نفوذ كبير، وقد أوصى أخاه “المعتصم” به: “… و«أبو عبيد الله أحمد بن أبي دؤاد» لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع ذٰلك …”.
عندما تولي “المعتصم” أمور الحكم جعله قاضي القضاة بدلاً من “يَحيى بن أكثم”، وكان أقرب الأشخاص وأحبهم إلى قلبه، ولم يكُن “المعتصم” يرد له طلبًا، وكان يداوم على زيارته حتى قيل له يومًا: لماذا تعاوده في حين هو لا يعاود أهله؟! فأجابهم: “و كيف لا أعود رجلاً ما وقعت عيني عليه قط إلا ساق إليَّ أجرًا، أو أوجب لي شكرًا، أو أفادني فائدة تنفعني في ديني ودنياي، وما سألني حاجة لنفسه قط؟!”. كذٰلك اتفق كثير من المؤرخين في وصف كرم “ابن أبي دؤاد” فقيل: “أكرمُ من كان في دولة «بني العباس»«البرامِكة»، ثم «ابن أبي دؤاد»”؛ فقد نال من الخلفاء كثيرًا من المال وأنفق على الناس أيضًا كثيرًا، وبخاصة من هم من أهل العلم والأدب فقد كان أديبًا شاعرًا إذ ذُكر أنه: “كان «ابن أبي دؤاد» شاعرًا مُجيدًا، فصيحًا، بليغًا.”، كما ذُكر اسمه بين أسماء الشعراء ورُويت له أبيات من الشعر. إلا أن المؤرخين يأخذون عليه دوره الكبير في الخلافات العقيدية التي شهِدتها عصور الخلفاء الثلاثة “المأمون” و”المعتصم” و”المتوكل”، التي أُطلق عليها “المحنة العظيمة”؛ فقد قيل: “لولا ما وضع به نفسه من محبة المحنة لاجتمعت الألسن عليه، ولم يُضَف إلى كرمه كرم أحد.”.
حُروب خارجية
مع انشغال “المعتصم” بالقضاء على الثوْرات، وبصفة خاصة القضاء على “بابَك”، أغار البيزنطيُّون على مدينتَي “زِبَطْرة” و”مليطة” وخرّبوهما، ثم تقدَّموا نحو “سوريا” حتى دخلوها. وما إن وصلت تلك الأخبار إلى مسامع “المعتصم” حتى بدأ في إعداد جيوشه لمحاربة “الروم”. وفي عام 223هـ (838م)، خرج بجُيوشه إلى مدينة “طَرسوس”، وقسَّم الجنود إلى ثلاثة أقسام، على رأس كل منها قائد من قوات الأتراك، وهم: “أَشناس”، و”إيتاخ”، و”جعفر بن دينار”؛ في حين جعل “الأفشِين” يدخل إلى بلاد “الروم” حيث نشِبت “معركة دَزِمُون”، وتمكن جيش “الأفشِين” من هزيمة جيش “الروم” ما جعل الإمبراطور يعود إلى “القسطنطينية”. وفي ذٰلك الوقت، كان الخليفة “المعتصم” قد دخل إلى مدينة أنقرة مع قائده “أَشناس”، ولم يَلقَيا أية مقاومة تُذكر لتشتت الجُنود، فقرر “المعتصم” أن يواصل زحفه حتى مدينة “عمورية” وهي مسقط رأس إمبراطور “الروم”.
وصلت الجُيوش إلى مدينة “عمورية”، وهي مدينة عظيمة جدًا وكانت محصنة تحصينًا شديدًا، حتى إن المدينة ـ وَفقًا للمؤرخين ـ قاومت حصار الجيوش خمسة وخمسين يومًا إلى أن استطاع جيش “المعتصم” أن يجد ثُغرة في سور المدينة فأمطر أسوار المدينة بالحجارة باستعمال “المَنجَنيق” إلى أن هدَّمها؛ ودخل المدينة وخرَّبها وحرّقها، ثم عاد إلى “طَرسوس” ومنها إلى “سامَرّاء”؛ وقد خلّد الشاعر “أبو تمام حبيب بن أوس” تلك المعركة، مُنشدًا:
تُوُفِّي الخليفة “المعتصم” عام 227هـ (841م)، بعد أن ترك ولاية العهد لابنه “هارون”. وقد امتاز بالشجاعة والإقدام إلا أن المؤرخين يأخذون عليه أنه: “لم يكُن بعيد النظر في العواقب، وعليه وحده تقع تبعة ما حل بالعباسيِّين بعده من: اضطراب أمرهم، وضعف سلاطينهم، وما حل بالأمة العربية من تغلب العنصر التركيّ على أمورها.”.
أحوال “مِصر” وحكامها في زمن “المعتصم”
مع بَدء حكم “المعتصم”، كان يحكم “مِصر” “كَيدَر الصَّفَديّ” الذي أرسل إليه الخليفة بإبعاد “العرب” عن الديوان وقطع الأموال عنهم؛ فقاد “يَحيى بن الوزير الجَرَوِيّ” ثورة ضده وانضم إليه آخرون، إلا أن “كَيدَر” تُوُفِّي وهو يجهز الجيش لمقاتلة الثائرين؛ وكان قد استخلف ابنه “المظفر” من بعده، فلما وصل خبر وفاته إلى “المعتصم” أقر “المظفر” على حكم “مِصر”.
“المظفر بن كَيدَر” 219هـ (834م)
ما إن تولى “المظفر بن كَيدَر” حكم “مِصر”، حتى ابتدأ في حشد الجيش لمقاتلة “يَحيى بن الوزير الجَرَوِيّ”؛ فتقاتلا قتالاً عنيفًا انتهى بانتصار “المظفر”. وعندما استتبت أمور الخلافة “للمعتصم”، منح “أبا جعفر أَشناس” حكم “مِصر”، فأبعد “المظفر” عن إدارة شُؤون البلاد وولَّى بدلاً منه “موسى بن أبي العباس”. وبذٰلك لم تتعدَّ مدة حكم “المظفر” أشهرًا قليلة ـ ذُكر أنها قُرابة أربعة أشهر ـ امتلأت بالحُروب والوقائع؛ وفي ذٰلك يذكر “التَّغريّ”: “وبالجملة فكانت أيامه على «مِصر» قليلة ووقائعه (جمْع وقيعة) وشُروره كثيرة”. وقد تعرضت البلاد في ذٰلك العام لزلازل هائلة، وكانت فيها ظلمة شديدة بين الظهر والعصر!!
“موسى بن أبي العباس” 219هـ (834م)
تولَّى حكم “مِصر” نائبًا عن “أَشناس”. وفي بَدء عهد حكمه قام عليه بعض أهل “الحوف”، وقامت وقائع كثيرة بينهما إلى أن استتبت الأمور وعُقد صلح. إلا أن أيامه شهِدت تعسفًا وجَورًا على علماء الدين والفقهاء إثر الاختلافات العقيدية مع الخليفة “المعتصم” ومن قَبله “المأمون”. وظل في حكم “مِصر” إلى أن عزله “أَشناس” عام 224هـ (839م)؛ فتولّى حكمها أربع سنوات وسبعة أشهر. وجاء من بعده “مالك بن كَيدَر الصَّفَديّ”. وفي أثناء حكمه: كانت الحرب على “بابَك الخُرَّميّ” و”مازيار”، وأَسْر جماعة “الزُّط”، ثم الحرب على “الروم” و”معركة عمورية”، وإتمام تخطيط مدينة “سامراء” وبنائها. وعام 221هـ (836م) تفشى مرض “الطاعون” في “بغداد” حتى مات كثيرون. وعام 223هـ (838م)، وقع زَلزال في مدينة “فِرغانة” ـ وهي مركز “ولاية فِرغانة” الواقعة في شرق “أوزبكستان” ـ قضى على آلاف من البشر قُدر عددهم بخمسة عشَر ألف شخص.
و … وعن “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي …!
الأُُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ