بدأنا سلسلةً من المقالات عن عصر السيد المسيح، الذى فيه تعاظم بطش الرومان فى حكمهم حكمـًا جائرًا دمويـًّا، وانتشرت الفلسفات المتعددة التى تعرضنا لبعض مدارسها، وتشتت الفكر بين أفكار متصارعة كل منها يعتقد خطأً أنه قد حوى الحكمة وملَك سر الإنسانية. وفى ظل هٰذا، حكم «اليهودية» حكام كان كل منهم لا يسعى إلا نحو ذاته ورغباته؛ ففقد الشعب استقراره وعصفت رياح الظلم بالأمن والسلام. ثم تحدثنا فى المقالة السابقة عن بعض الطوائف اليهودية التى اشتُهرت فى ذٰلك الزمان، ومنها: «الفَرِّيسيُّون»، «الكتبة»، «الصَّدّوقيُّون» الذين كانوا على خلاف دائم مع الفَّرِّيسيِّين، ثم «الأَسِينِيُّون». وهٰكذا انتشرت فى عصر السيد المسيح طوائف متعددة مختلفة فى عقائدها، لترسُم خطـًّا من التيه لشعب شتَّتته الأحوال السياسية الطاحنة والدماء التى تراق، وتعتصره ظروف اقتصادية قاسية. إنه الزمن الذى عرف قسوة الحياة، منتظرًا أن يأتى «السيد المسيح». وهكذا كان الشعب يسلك بعيدًا عن الله. لذلك، كان لا بد أن يُرسِل الله من يدعو الشعب إلى التوبة: فكان «يوحنا المَعْمَدان» الذى قدم خدمة قصيرة قُرابة الستة أشهر.
«يوحنا المَعْمَدان» هو إحدى الشخصيات العظيمة فى ذٰلك الزمان، فقد شهِد له السيد المسيح أنه أفضل من نبىّ وأعظم مواليد النساء. ومن قَبل ميلاده قال الملاك عنه، فى بشارته لأبيه «زكريا الكاهن»، إن كثيرين سيفرحون بولادته، لأنه يكون عظيمـًا أمام الرب. وقد كانت ولادته قبل ميلاد السيد المسيح بستة أشهر، ويُذكر أن يد الرب كانت معه، وأنه عاش حياته فى البرارى ناسكـًا حتى بدأت خدمته فى سن الثلاثين. دعا «يوحنا المَعمَدان» الشعب إلى التوبة فى السَّنة الخامسة عشْرة من وِلاية «طِيبَارِيُوس قيصر»، وكانت الرئاسة الدينية آنذاك متمثلة فى رئيسَى الكهنة «حَنَّانَ» و«قَيافَا». وما إن بدأ ينادى بالتوبة، حتى لجأ إليه كثير من أفراد الشعب معترفين بخطاياهم وتائبين. وقد قدَّم «يوحنا» رسالته إلى الجميع فى ذٰلك الزمان، فقال للملك «هِيرُودُس» أنه لا يحل له أن يتزوج بامرأة أخيه، وطلب من الجنود ألا يظلموا أو يشوا بأحد. أمّا العشارون، وهم محصلو الضرائب، فكان يعلِّمهم بأن تكون لديهم الرحمة فلا يأخذوا أكثر مما فُرض لهم.
«زكريا» و«ألِيصابات» هما والدا النبى «يوحنا المَعْمَدان»، وقد قيل إنهما كانا بارين أمام الله، وكانا يسلكان بحسب وصاياه. كان «زكريا» كاهنـًا لله وكانت «ألِيصابات» زوجته عاقرًا وهو ما كان يُعتبر عارًا فى «العهد القديم». وحين وقع الدَّور على «زكريا» ليخدُِم فى الهيكل، ظهر له ملاك الرب «جَبرائيل» وبشره بأن الله قد استجاب لصلواتهما، وأنهما سيُرزقان بطفل يُدعى «يوحنا» وسيكون عظيمـًا. وهٰكذا كانت حياتهما الممتلئة بكل صلاح سراجـًا مضيئـًا أمام الله؛ فوهب لهما ابنـًا نبيـًّا صار هو الملاك الذى يقود الشعب إلى التوبة.
«يوسُف النجار» أُطلق عليه أيضـًا اسم «يوسُِف البار»؛ وهو من سلسلة أنساب السيد المسيح: فنجد أنه من «سبط يهوذا»، وتعود عائلته إلى «داود النبى» الملك. وُلد «يوسُِف النجار» فى «بيت لحم»، وامتهن النجارة، وكان إنسانـًا بارًّا يهتم بالحفاظ على الطقوس والأعياد الدينية. ومن أجل بره وعظمته فى عين الله، فقد اؤتمن على «العائلة المقدسة»، ولم تكُن آنذاك بالمهمة السهلة، إذ كان شيخـًا متقدمـًا فى أيامه. وقد صاحب «السيدة العذراء» إلى «بيت لحم»، ثم إلى «أرض مِصر» التى عاشت «العائلة المقدسة» بها متغربة تتنقل من مكان إلى مكان ومن بلدة إلى أخرى، وهو لا يدّخر جُهدًا فى تأمينها من أى خطر. حتى عاد إلى وطنه ليبدأ دورًا آخر من إعالة تلك الأسرة المقدسة بكل ما يملِك. لقد كان «يوسُف النجار» إحدى الشخصيات التى عاشت ذٰلك الزمان العصيب فى بِر وقداسة، متّبعـًا الله بكل قلبه؛ فأسندت له مُهمة رعاية «العائلة المقدسة»، وقد أداها بكل صلاح فى خدمة خفية مضحية باذلة. وطبقـًا للتقليد: فقد مات ذٰلك البارّ بين يدَى السيد المسيح و«السيدة مريم العذراء».
«سِمعان الشيخ» هو أحد شُيوخ بنى «إسرائيل» السبعين الذين قاموا بترجمة التوراة من العبرانية إلى اليونانية فى أيام «بطليموس الملك» عام ٢٧٢ ق. م. تقريبـًا، عندما أرسل إلى أورُشليم واستحضر سبعين رجلاً من أحبار اليهود وعلمائهم لذٰلك الأمر؛ ثم قام بعزل كل اثنين منهم فى مكان منفرد لضمان الوصول إلى نسخة مترجمة صحيحة دقيقة دقة تامة. وذُكر عن «سِمعان الشيخ» أنه كان شيخـًا بارًّا تقيـًّا، وقد عاش قرابة الثلاث مئة سنة إلى أن وُلد السيد المسيح، ورآه بعينيه فى الهيكل، وحمله على ذراعيه مباركـًا الله.
«حِنَّة النبية» هى «حِنة» بنت «فَنُوئيل»؛ وكانت نبية من «سبط أشير». صارت أرملة بعد زواج استمر سَبْع سنوات. وبعد ترملها، عاشت فى الهيكل لا تفارقه أربعة وثمانين عامـًا، فى حياة يملؤها البر والقداسة، متعبدة بأصوام وصلوات ليلاً ونهارًا. وقد كانت «حِنة» وقت حضور العائلة إلى الهيكل ووجود «سِمعان الشيخ».
«السيدة العذراء» هى تلك الفتاة الرقيقة التى وُلدت لـ«يواقيم» و«حِنة» البارين، ببشارة من الله. وقد أنشد «سُلَيمان الحكيم» عنها بروح النبوَّة: «بنات كثيرات عَمِلن فضلاً، أما أنتِ ففُقت ِعليهن جميعًا». وبالرغم من الحالة الروحية والدينية التى كانت فى تلك الأيام، فقد امتلأت نفسها من كل نعمة وصلاح وبر، بعد أن قدَّمها والداها إلى الهيكل وهى فى سن الثالثة من أجل خدمة بيت الله. فعاشت الطفلة «مريم» فى الهيكل فى صلوات وأصوام وحياة بر وقداسة، إلى أن تركت الهيكل وعاشت فى بيت «يوسُف».
«الرعاة» أما عن الرعاة الساهرين على حراسة رعيتهم فى مدينة «بيت لحم»، الذين استحقوا أن يظهر لهم ملاك ويبشرهم بالطفل المولود ومكانه، ثم يرَوا جمهورًا من الجند السمائى مسبحين الله: «المجد لله فى الأعالى، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة»، فهم يمثلون كل إنسان من الشعب كان يسلك بتقوى وأمانة قلب فى تلك الأيام. فإن هناك نفوسـًا لم تُذكر أسماؤها فى ذاكرة البشر، إلا أنها حفِظت نفسها فى بِر، تتَّبع وصايا الله وترتفع بقلوبها فى عبادة حقيقية؛ هٰذه الأنفس الأمينة البارة كانت دائمـًا أمام الله.
«المجوس» فى ذٰلك العصر كان العالم أيضـًا يئن تحت وطأة الظلم والقسوة الرومانية، تائهـًا بين فلسفات متعددة تَيَهانـًا شديدًا! ليأتى «المجوس» الذين يمثلون النفوس التى تبحث عن الله بكل أمانة كائنةً فى ظلمة عدم المعرفة بعيدًا عن الله. رأى «المجوس» نَجمـًا غريبـًا يظهر فى السماء يُعد علامة بحسَب عُلومهم على مولد «ملك»؛ فما كان منهم إلا أن حملوا هداياهم، وتبِعوا النَّجم باحثين عن هٰذا الملك العظيم. إن الله اجتذب «المجوس» الغرباء إلى نور معرفته بالوسيلة التى يستطيعون فَهمها: النُّجوم وحركاتها. وإذ كانوا أمناء، أطاعوا ما رأَوه وتتبعوه فى رحلة حافلة بالأخطار، معرِّضين أنفسهم لمخاطر السفر، وأخطار من «هِيرُودُس». وهٰكذا لم يخلُ ذٰلك العصر، فى العالم بأسره، بالرغم من قسوته وأعاصيره الفكرية والنفسية والروحية للإطاحة بكل ما هو لله، وشدة الظلام واليأس التى غشته، من وُجود شخصيات مضيئة تبِعت الله بكل قلبها، فى حياة بر وصلوات وأصوام. فاستحقت تلك النفوس أن تكون ومضات ضوء، وأن تشارك فى هٰذا الحدث العظيم حين جاء مِلء الزمان ووُلد السيد المسيح، ليعطى كل إنسان الرجاء، ويبارك حياة كل من عاش أمينـًا لله مخلصـًا ساعيـًا نحو الخير، ولتتحقق كلمات «إشعياء النبى»: «الشعب السالك فى الظلمة أبصر نورًا عظيمـًا. الجالسون فى أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور». وفى «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى