بدأنا حديثنا عن الكرم وذكرنا أنه صفة من صفات الله الذي يُعطي بغنًي لكل خليقته، وأن الإنسان إنما هو يقدم ويُعطي من جود الله عليه.
والإنسان الكريم السخيّ هو إنسان قريب من الله، وهذا ما تُقره الأديان جميعًا؛ ففي سورة البقرة الآية الـ272: »وما تُنفقوا من خير يوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظلَمون« . وفي الكتاب نسمع عن قصة الغنيّ الذي كان يسكن القصور، وعلي بابه مسكين فقير اسمه لِعازَر . كان الغنيّ كلما دخل أو خرج من قصره يري لعازر فلا يرِقّ له أو يهبه ما يحتاجه ـ علي غناه الفاحش هذا!! وعندما ماتا كلاهما، كان مصير الغنيّ ـ الذي عاش لنفسه فقط مهملا الفقير المطروح عند بابه ـ أن يلاقي العذاب؛ في حين ذهب لعازر إلي الفردَوس بعد احتمل المشقات والأتعاب في حياته علي الأرض في شكر ورضا.
والإنسان الذي يبخل بماله يكون مثل ذلك الغنيّ الغبيّ الذي أخصبت أرضه وأعطت حصادًا كثيرًا فلم يفكر إلا في أمر نفسه فقط ناسيًا الآخرين؛ لم يستطِع أن يُدرك أن الخير الذي قدَّمه إليه الله قد يكون هو لإعالة آخرين أو لتسديد حاجات مَن حوله. كل ما فعله أنه ظل يفكر فيما سيفعله لنفسه حتي قرر أن يَهدِم مخازنه ويبني أعظم، فجاءه صوت الله يقول: “.. في هذه الليلة تؤخَذ نفسك منك، فهذه الذي أعددتَها لمَن تكون؟”.
لذا يقال في الحديث: أنفِقْ يا بن آدم أُنفِق عليك”، ويقول الكتاب: “.. أَعطُوا تُعطَوا، كيلا جيدًا مُلَبَّدًا مهزوزًا فائضًا … لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يُكال لكم ويُزاد.”. فما يٌقدمه الإنسان سيجده حتمًا في يوم ما. يقول الحكيم: “اِرمِ خبزك علي وجه المياه فإنك تجده بعد أيام كثيرة.”، فكل عمَل للإنسان محفوظ ومصون له, فمن يزرع بالشُّح يحصُد بالشُّح، ومن يزرع بالبركات يحصُد بالبركات.
وهنا أتذكر إحدي القصص التي قرأتُها عن صبيّ صغير اسمه “هاوارد كيلي” قرر في يوم ما أن يَطرُق أول باب سيقابله ويطلب من قاطني البيت بعض الطعام ليسِد جوعه. فهو يقوم ببيع البضائع والانتقال من منزل إلي آخر، ويعمل ليجد ما يكمل به دراسته، وقد وجد أن ما معه من مال لا يكفي لشراء طعام الكفاف. وما أن فُتح الباب حتي وجد شابة تسأله عن طلبه، وبدلا من أن يطلب طعام اكتفي بطلب كوب ماء. إلا أن الشابة رأت الجوع باديًا عليه؛ فأحضرت له كوبًا كبيرًا من اللبن. فشرِبه ببطء، ثم سألها عن ثمن كوب اللبن، إلا أنها أجابته: لا شيء! فقد علَّمتنا والدتي ألا نأخذ ثمن الإنسانية. شكرها “هاوارد” بامتنان، وترك المنزل وهو يشعر بالقوة البدنية، وقد ازداد إيمانه بالله والإنسان.
ومرت السنون، ومرِضت تلك الشابة مرضًا شديدًا لم يستطِع أطباء بلدتها الصغيرة مُداواته. وقرروا أنه لا بد أن تذهب للعلاج في إحدي المدن الكبري لتجد علاجًا لما تشكو منه. ولمّا ذهبت، لم يكُن حل آخر سوي أن تُعرَض علي أحد أهم الأطباء المتخصصين في علاج هذا المرض النادر. وبعد فحص الطبيب إياها، قرر أن يفعل كل ما بوسعه ليُنقذ حياتها. وبعد كفاح طويل مرير، جاء الانتصار بمعونة الله علي المرض وشُفيت الشابة. أرسل المستشفي الفاتورة إلي الطبيب المعالج ليوقع بالموافقة عليها، فنظر إلي الفاتورة وكتب بضع كلمات في هامشها، ثم أرسلها إلي الشابة التي كانت تخشي النظر إليها؛ حيث إنها كانت تعرف أن سداد مثل تلك الفواتير قد يتطلب منها العمل حتي نهاية عمرها لتفي بالمبلغ المطلوب! وأخيرا نظرت إلي الفاتورة لتري بضع كلمات كُتبت علي هامشها تقول: “دُفع المبلغ المطلوب كاملا بكوب من الحليب.” التوقيع: د/ هاوارد كيلي!
ما أعظم الكرم والعطاء! ليس المادي فقط بل … بل للحديث بقية …
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ