تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكم الإمبراطور «أركاديوس قيصر» للإمبراطورية الرومانية فى الشرق، وكيف أن إدارة شؤون البلاد انتقلت من «رُوفينيوس» إلى «أُطروبيوس» بعد اغتياله، ثم أصبح الحكم بين يدَى الإمبراطورة المستبدة «أُودُكسيا» حتى ماتت فى 404 م، ومن بعدها تولى زمام الأمور «أُنِثِيميوس» الذى سيطر فى حكمه بطريقة كاملة حتى لم يعُد للإمبراطور أيّ وجود يُذكر، حتى مات فى 408 م لأسباب غير معلومة تاركًا الحكم لابنه «ثيئودوسيوس الثانى». وقد تعرضنا للحديث عن الخلاف بين الإمبراطورة «أُودُكسيا» وبطريرك القسطنطينية «يوحنا الذهبى الفم» حتى إنها سعت لنفيه مرتين، وتنيح فى منفاه الثانى.
يوحنا الذهبى الفم
حياته الأولى
وُلد «يوحنا الذهبى الفم» عام 347 م من أب هو الوالى «سيكوندس» ـ قائد فرقة الخيّالة فى الجيش الرومانى. الذى غادر العالم ويوحنا لايزال رضيعًا، فقامت أمه الشابة «آنثُوسا» بتربيته وتثقيفه بالعلوم والمعارف، فتعلم البلاغة والمنطق على يد «ليبانيوس» الفيلسوف الوثنى أعظم خطباء عصره، ودرس الفلسفة لدى «أندروغاثيوس».
نبغ «يوحنا» نُبوغًا أذهل كل من رآه، حتى إن «ليبانيوس» وهو يحتضر سأله تلاميذه عمن يخلُفه، فأجاب: يوحنا، لو لم يسلُبه المسيحيُّون منا! لقد اكتشف هٰذا الفيلسوف مواهب «يوحنا» وبراعته وفصاحته، ما جعله يرغب فى أن يسلمه قيادة مدرسته من بعده. ونال «يوحنا» إعجاب كثيرين فتنبأوا له بمستقبل عظيم ومركز رفيع.
صداقته وباسيليوس
مارس «يوحنا» مهنة المحاماة فى بَدء حياته مدافعًا عن الفقراء والمظلومين، جاذبًا أنظار الجميع إلى بلاغته، ومنجذبًا إلى ملاهى الحياة. ولكنّ صديق طفولته «باسيليوس» عمِل على اجتذابه إلى محبة الله، فكان عاملًا أساسيًّا على تغيير مجرى حياته. فقال عنه: «مال الميزان بيننا، فعَلَتْ كفّته، وهبطَت كفتى تحت ثِقْل شهوات هذا العالم والأهواء التى ينغمس فيها الشباب». وبسبب «باسيليوس» اشتاق «يوحنا» إلى حياة التكريس والعبادة فترك المحاماة، وتتلمذ ثلاث سنوات على يد «مِلِيتيوس» أسقف أنطاكية الأُرثوذكسى.
وعندما رغِب السلوك فى الحياة الرهبانية، طلبت إليه أمه بدُموع ألا يُفارقها حتى موتها، وتركت له حرية التعبد للهكما يشاء، فامتثل «يوحنا» لرغبة أمه ولم يترهب. ولٰكنه عاش ناسكًا، يُصلى كثيرًا، ويأكل قليلًا، مبتعدًا عن الراحة، وقلبه لا يملأه إلا محبة الله.
ذاعت شهرة الصَّديقَين بين الناس حتى بدأت أنظار الجميع تتجه إليهما عندما أرادوا رسم أسقفين فى سوريا.
ولكنْ فكر «يوحنا» كان مشغولًا بحياة الرهبنة، ولِئلا يُعوِّق رسامة «باسيليوس» لم يتحدث عن رغبته هو حاثًّا صديقه على قَبول الرسامة، وقد جرى ذلك. وعندما جاء الدَّور على «يوحنا» اختفى فى الجبال، فحزِن «باسيليوس» وكتب إليه يعاتبه على هربه من المنصب، فكان رد «يوحنا» إليه مقالةً رائعةً عن الكهنوت.
رهبنته
عاد يوحنا إلى أنطاكية، وسرعان ما تنيحت والدته، فانطلق إلى الحياة الرَّهبانية يحيا فيها أربع سنوات، كاتبًا خلالها مقالته الأولى «مقارنة بين المَلك والراهب». وفى 373 م، قام الملك «ڤالِنس» باضطهاد الأُرثوذكس رافضًا الرهبنة، ما جعل «يوحنا» يكتُب ثلاثة كُتب بعنوان «ضد أعداء الرهبنة»، تحدث فيها عن الحياة الرَّهبانية وجمالها، وعن برِّية مِصر التى قدمت الرهبنة إلى العالم فقال: «هلُمّوا إلى برِّية مِصر لترَوها أفضل من كل فردَوس»! وتعددت كتابات «يوحنا» عن التوبة، والتعزية فى التجارب، وقد جذبت أنظار الناس إليه فسعَوا إليه، وهو ما جعله يهرب إلى حياة الوِحدة عامَين، ثم عاد إلى أنطاكية للخدمة.
فى 381 م، عمِل معاونًا لأسقف أنطاكية «مِيلِيتوس»، ووضع بعض الكتب الدفاعية والنسكية فى أثناء تلك المدة؛فكتب المقالتَين الدفاعيَّتَين: «القديس بابيلاس وضد يوليانوس»، و«ضد اليهود والأمم». ومن المقالات النُّسكية:«عن البتولية»، «عن الندامة»، «إلى أرملة شابة»، وغيرها.
رسامته قَسًّا
كانت فى عام 386 م، مجتذبًا بعظاته قلوب كل من استمع إليه. ثم انطلقت شهرته كواعظ مع مجموعة من العظات التى ألقاها فى أنطاكية باسم «عظات التماثيل». وقصة تلك العظات تعود إلى عام 387 م عندما رغِبت الحكومة أن تستعد للاحتفال بمرور عشْر سنوات على حكم الإمبراطور «ثيئودوسيوس الكبير» وخمْس سنوات على إشراك ابنه «أركاديوس» معه فى السلطة، فكان الأمر الإمبراطورى بفرض ضريبة جديدة إضافية، الأمر الذى استاءت منه المملكة كلها.
أمّا فى أنطاكية، فقد عبَّر الشعب عن شعوره بالاستياء، وانتهز البعض تلك الفرصة ليتحول الاستياءفى لحظات إلى ثورة، فقام البعض بتحطيم تماثيل الإمبراطور والإمبراطورة وابنهما. ثم أفاق أفراد الشعب علىالخوف من العقاب الذى سيلاقونه بسبب فعلتهم تلك. ولم يجد الأب البطريرك «فلافيان» حلًّا بديلًا من الذهاب إلى الإمبراطور لتهدئته، فأسرع الأب البطريرك إلى القسطنطينية. وفى تلك الأثناء، أمر الإمبراطور بسقوط امتيازات المدينة، ونقل العاصمة إلى اللاذقية، وإغلاق الأندية والمسارح، والقبض على كل مَن اشتُبه فيه، كذٰلك أعلن القائد الأمر بحرق المدينة وقتل كل شعبها لولا تدخل بعض النساك والرهبان، ما أثار ذعر الناس وهُم ينتظرون عودة الأب البطريرك وشفاعته لدى الإمبراطور. وفى ذلك الوقت، أسرع الشعب إلى الكنيسة ليقوم الكاهن «يوحنا»بوعظه عن التوبة والرُّجوع إلى الله، وكانت عظاته تلك هى سبب شهرته وأطلق عليها اسم «عظات التماثيل». ونجَح الأب البطريرك فى استصدار عفو الإمبراطور عن الشعب.
رسامته بطريركًا على القسطنطينية
وبعد اثنى عشَر عامًا فى 398 م، رُسم القَس «يوحنا» بطريركًا عقب نياحة بطريرك القسطنطينية، وكان هذا بترشيح من «أُطروبيوس» الذى أعجب بعظاته، فحُمل قسرًا إلى القسطنطينية ليُرسم بطريركًا عليها. واهتم البطريرك «يوحنا الذهبى الفم» برعاية شعبه، وبالفقراء والأرامل.
«يوحنا الذهبى الفم» و«أُطروبيوس»
عندما صار «أُطروبيوس» الحاكم الفعلى للإمبراطورية الرومانية الشرقية، تجبَّر وقسا على الشعب والكنيسةمستبعدًا الأمناء والشرفاء.
واستطاع إلغاء حق اللجوء الكنسى بالرغم من احتجاجات البطريرك «يوحنا»، وذٰلك
حتى يتمكن من اغتيال من يشاء ونفيه. و«أُطروبيوس» هو من اقترح رسامة «يوحنا بطريركًا على القسطنطينية، وحاول مساندته ليكسبه إلى صفه. ولٰكنّ البطريرك كان لا يتكلم إلا بالحق ضد شرور الأغنياء، فساءت عَلاقته بأُطروبيوس الذى تعرض لمكيدة لقتله كانت بتدبير «جيناس» والإمبراطورة. وهرب «أُطروبيوس» إلى كنيسة آجيا صوفيا، وحاول البطريرك أن يعظ عن المحبة، وأن كل نفس لها ضعفاتها، ما أنقذ «أُطروبيوس» من الموت
فنُفى كما ذكرنا سابقًا، ثم أُعدم.
«يوحنا الذهبى الفم» والإمبراطورة «أُودُكسِيا»
فى بادئ الأمر مال قلب الإمبراطور «آركاديوس» وزوجته «أذوكسيا» إلى محبة البطريرك، إلا أن هٰذه المحبة تحولت إلى بُغضة شديدة من الإمبراطورة حين وقفَ البطريرك مساندًا «أُطروبيوس»، ورفضَ بطشها فى إدارة حكم البلاد.
فقد طالبها برد حقل اغتصبته من أرملة ظلمًا فرفضت، فأغلق أمامها أبواب الكاتدرائية فى عيد
الصليب. كذٰلك انتقد حياة الرفاهية التى تحياها كإمبراطورة هى وكثيرات من أصدقائها اللاتى لم يتوقفن عن الحديث ضد البطريرك، حتى إنها دبرت عام 403 م أمر نفيه من البلاد.
وما أن علِمت رعيته بقرار استبعاده من القسطنطينية حتى ثاروا ضد الملكة وأحاطوا بالقصر مطالبين بعودة بطريركهم راعيهم. فلم تجد حلًّا لتُوقف الفتنة فى البلاد إلا بأن تأمر بعودته فى الحال من منفاه، واستقبلته الجماهير عند عودته استقبالًا حافلًا.
ولكنّ الخلاف العام بين الإمبراطورة والبطريرك لم ينتهِ حتى سعت إلى نفيه مرة أخرى فى 404م؛ فاستمر فى منفاه حتى وفاته.
ويذكر المؤرخون أن المنفى كان بعد أن ندد «الذهبى الفم» تنديدًا قاسيًا بما قامت به الإمبراطورة من نصب تمثال لها فى مكان قريب من كاتدرائية آجِيا صوفِيا حتى إن أصوات الغناء والصلوات تداخلت! وقد أدت تلك الأمور إلى حدوث فجوة بين «أركاديوس» وأخيه «هونوريوس» قيصر الغرب بسبب ما حدث للذهبى الفم.
وما أن نُفِى البطريرك حتى حلت المصائب بالبلاد من تلف للمزروعات وزلازل، فاعتقد الناس أنه بسبب تعرض بطريركهم للظلم.
ولم تنعَم الإمبراطورة بالانتصار طويلًا إذ ماتت فى أكتوبر 404 م. ورُدّ اعتبار البطريرك «يوحنا» عام 417 م حين أعاد بطريرك القسطنطينية «أتيكوس» ذكر اسمه فى لَوحة تَذكارات البطاركة القديسين.
وفى 419 م، أعاد البابا «كيرِلُّس الكبير» اسمه فى لَوحة تَذكارات البطاركة القديسين، وصار يُذكر حتى الآن فى الصلوات. وفى 438 م، أمر الإمبراطور «ثيئودوسيوس الثانى» بإحضار جثمانه إلى كنيسة الرسُْل بالقسطنطينية. ونال كرامة عظيمة جدًّا بعد انتقاله، وإلى اليوم هو يتمتع بمحبة وتكريم كل الطوائف المسيحية.
وإن كان قد أُطلق عليه لقب «الذهبى الفم» لأجل عظاته وتعليمه الشعب فى القرن السادس الميلادى، فحياته كذلك كانت تعبيرًا عن هذا، فقد كان أكثر الوُعاظ شعبية فى أنطاكية من كل طبقات الشعب. وبعد موت «أركاديوس»، آل الحكم فى الإمبراطورية الشرقية إلى ابنه «ثيئودوسيوس الثانى» فى مدة جديدة عبرت على مصر الحُلوة التى لا ينتهى الحديث عنها…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى