تحدثنا فى المقالتين السابقتين عن «النازية» بما حملت من أفكار نشرتها بين الشعب، وبخاصة الشباب، لتوحيد الطاقات فى إعادة أمجاد الإمبراطورية الألمانية، ومحاولاتها للتوسع والسيطرة على حساب حياة ملايين من البشر، وانهزامها أمام قوات «الاتحاد السوفيتى» بعد أن استطاعت أن تدخل «برلين»؛ ليُقْدم «هتلر» على الانتحار وتسقط «ألمانيا» النازية تمامــًا. إلا أن فى تلك الفترة، تعرضت الإنسانية لعديد من المآسى. مآسٍ إنسانية
عمِلت «النازية» على إبادة اليهود، وعديد من الأجناس الأخرى نهائيـًا من المناطق الألمانية، وقامت بعمليات قتل جماعى لهم عُرفت بالـ«هولوكوست»، بعد أن وصفتهم بالخطر على المجتمع الألمانى. وهكذا بدأ العداء ضد كل من هو ليس من الجنس الآرى من: يهود، وغجر، ومثليِّين، والأعداء السياسيِّين، والألمان المعاقين جسديـًّا وعقليـًّا والمصابين بالصرع، وفاقدى البصر، والصُّم،… إلخ. وتخضبت صفحات التاريخ بدماء الأبرياء من البشر؛ فقد أشارت أعداد الضحايا إلى سقوط ٦ ملايين يهودى، و٣ ملايين بولندى، و٣ ملايين جندى روسى من الأسرى، وقرابة المليون من الغجر، ومئات آلاف من العاجزين والمقعدين. «هولوكوست»
ظهرت كلمة «هولوكوست» عام ١٩٤٢م، لكنها استُخدمت على نحو أوسع فى الخمسينيات، ثم فى السبعينيات، وصفـًا لما قام به النازيُّون من تصفية عرقية لليهود فى أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية. والكلمة تعنى «الحرق الكامل للقرابين المقدمة إلى خالق الكَون»، إلى أن أصبحت تصف «الكوارث والمآسى العظيمة».
بدأت سلسلة من المآسى الإنسانية مع وصول النازيِّين إلى الحكم فى ١٩٣٣م، عندما نادى الحزب بعمل مقاطعة كاملة لكل ما هو يهودى مدة يوم واحد. وجرى لصق لافتات معادية لليهود كُتب عليها: «لا تشتروا من اليهود»، و«اليهود هم البلاء الذى ابتُلينا به». وجالت القوات الخاصة شوارع بعض المدن، وهى تردد شعارات معادية لليهود. كذٰلك قُتل أحد المحامين اليهود فى مدينة «كييل». ولم تمضِ بضعة أيام على ذاك الحدث حتى طُرد اليهود من المؤسسات الحكومية. ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل صدر فى عام ١٩٣٥م «قوانين نورمبرج» العنصرية التى تمنع اليهودى من الزواج بغير اليهودية. وجُرّد اليهود الألمان من الجنسية الألمانية، ومن حق التصويت فى الانتخابات. وشهِد عام ١٩٣٨م صدور قانون يمنع التلاميذ اليهود من دخول المدارس الألمانية العامة. وكما ذكرنا فإنه جرت التغطية على مثل تلك الشعارات والأحداث فى أثناء الدورة الأولمبية فى «برلين». إلى أن توصل النازيُّون إلى ما أسمَوه «الحل الأخير». ففى عام ١٩٤٢م، عقد الحزب النازى مؤتمرًا ناقش فيه آلية إبادة الأجناس الأخرى التى سماها «من هم دون البشر»، والاستبعاد القسرى لهم، وقسّموا البشر إلى الجنس الآرى الذى يفوق الأجناس الأوروبية الخليطة مثل: الغجر، والبولنديُّين، واليهود، والسلافيّين، والألطيُّين، والأفارقة، وضمت إليهم: المثليِّين، والمجرمين، والمعاقين جسميـًّا أو عقليـًّا، والشيوعيِّين، والليبراليِّين، ومعارضى الفلسفة النازية، و«شهود يهوه».
وكانت قد بدأت معسكرات الاعتقال فى ١٩٣٣م، وأُطلق عليها «معسكرات التركيز أو التكثيف»، ووصل عددها مع عام ١٩٣٩م إلى ستة معتقلات فى «ألمانيا». وكان يوضع عدد كبير من البشر فيها على رُقعة صغيرة من الأرض، والأسرى المعتقلون يقومون بأعمال موزعة عليهم؛ وكانت تُجرى عليهم تجارِب علمية وطبية. وفى عام ١٩٤١م، أنشئت «معسكرات الإبادة أو الموت» لقتل المعتقلين باستخدام الغاز السام أو بأساليب أخرى، ثم بإحراق الجثث؛ وقد وصل عدد تلك المعسكرات إلى ٤٧ وُزعت كالتالى: ١٧ فى «ألمانيا»، و٩ فى «بولندا»، و٤ فى «النرويج»، و٢ فى كل من «هولندا» و«إستونيا» و«إيطاليا» و«فرنسا»، وواحد فى كل من «تشيكوسلوفاكيا» و«لاتفيا» و«النمسا» و«بيلاروس» و«أوكرانيا» و«لتوانيا» و«بلجيكا»، و«جزر الشانيل» بين «فرنسا» و«المملكة المتحدة». ونستعرض معـًا بعض القصص الحقيقية التى شهدت المآسى النازية:
«هيلين ميلانى ليبل»
«هيلين» هى ابنة رجل يهودى وأم كاثوليكية، نشأت فى «فيينا»؛ وفى الخامسة من عمرها تُوفى أبوها، ثم تزوجت والدتها مرة أخرى عندما كانت فى الخامسة عشْرة. وفى التاسعة عشْرة، بدأ ظهور علامات تشير إلى إصابة «هيلين» بمرض عقلى ازدادت حالته سوءًا فتركت دراستها، ثم تعرضت إلى حالة انهيار عصبى شديد، وشُخص مرضها على أنه «انفصام فى الشخصية» فوُضعت فى «مستشفى اشتاينهوف» للأمراض العقلية فى «فيينا». وبعد أن ضم الألمان «النمسا»، احتُجزت «هيلين» فى «مستشفى اشتاينهوف»، ثم نُقلت إلى سجن فى «براندنبرج» بـ«ألمانيا»، حيث أجريت عليها اختبارات الصحة الجسدية. وقد قُتلت «هيلين» مع آلاف السجناء الآخرين فى غرف الغاز المعدة للإعدام، ثم أحرقت أجسادهم فى المحرَقة عام ١٩٤٥م، وقد سُجل حادث وفاتها على أنه كان نتيجة إصابتها بحالة «الهيجان الانفصامى الحاد»!
«هينوخ كورنفيلد»
وُلد «هينوخ» فى ١٩٣٨م من والدين يهوديِّين؛ وعندما كان عمره عامـًا اجتاحت «ألمانيا» «بولندا». وحاول الجيش البولندى التصدى للغزو الألمانى، إلا أنه هُزم أمام النازيِّين، وخضعت المدينة التى يقطن فيها الطفل «هينوخ» للسيطرة الألمانية. ثم جرى ترحيل الطفل وعائلته إلى حى اليهود فى مدينة «زيشوف»، ثم معتقل الإبادة فى «بيلزيك» حيث أُحرقوا فى غرف الغاز للإعدام، وكان يبلغ من العمر آنذاك ثلاث سنوات ونصف السنة تقريبـًا.
«أليكساندرا شيتشرافا»
وهى نموذج سوفيتى للذين شهِدوا فظائع النازيِّين؛ فقد كانت «أليكساندرا» ابنة لأبوين روسيِّين، ولها ستة إخوة. عاشت العائلة فى قرية صغيرة بإقليم «أورلوفسكايا» الذى يقع على بعد ٢٥٠ ميلاً جنوب «موسكو». التحقت «أليكساندرا» بالمدرسة ودرست اللغة الألمانية؛ كان والدها يعمل فى اللصق والدهان حتى إنه كان يغيب طويلا عن المنزل مدة تصل إلى عدة أشهر، كما عمِلت والدتها فى مزرعة جماعية فى القرية.
وتحكى «أليكساندرا» أنها نُقلت إلى «ألمانيا» فى مايو من عام ١٩٤٢م، مع مواطنين آخرين من «السوفييت» بطريقة غير آدمية فى عربة ماشية! وتصف تلك الحِقبة العصيبة من حياتها فتقول: «كنا آنذاك عبيدًا للرايخ. وكان علينا ارتداء شارة لنوضح أننا (شرقيُّون). وجرى تكليفى للعمل بفندق صغير يقع على «نهر الموزيل» (نهر يتدفق عبر «فرنسا» و«لوكسمبورج» و«ألمانيا»). كانت رئيستى النازية امرأة باردة تتمتع بإخبارى بأننى «دون البشر»! كنتُ أستمع فى السر إلى أخبار «السوفييت» على المذياع الخاص بهم. قُبض علىَّ يومـًا، وقام رجال قوات الشرطة السرية النازية (الجيستابو) بالتحقيق معى. أخبرتُهم بأننى أستمع فقط لأسمع لغتى الخاصة. هددونى بأن فى المرة القادمة سأُرسَل إلى معسكر اعتقال». وقد حُررت أليكساندرا بأيدى القوات الأمريكية فى مارس من عام ١٩٤٥م.
إن التاريخ يمتلئ بالصفحات، ولكن أنصعها هى تلك التى تمتلئ بالبناء والعمل والتشييد وإقامة الحضارات لا هدمها، بالحفاظ على إنسانية البشر لا تحطيمها؛ ودائمـًا كان هذا هو الطريق الذى سلكته «مِصر» صانعة الحضارة، «مصر الحلوة» ذات الحديث الذى لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى