وماتزال ذكريات بُطولات شهداء من أجل الوطن في انتصار أكتوبر، راسمةً لنا أعظم مشاهد التضحية من أجل مِصر. تحدثنا في المقالة السابقة عن أسدين من أُسود سيناء: اللواء أركان حرب شفيق مترى سدراك قائد أول لواء مشاة عبَر القناة من الفرقة ١٦ مشاة في القطاع الأوسط من سيناء، والرقيب سيد زكريا خليل الذي استطاع وحده إيقاف كتيبة كاملة من الجيش الإسرائيلى، وكان في عداد المفقودين في حرب أكتوبر ١٩٧٣م، إلى أن أظهر بطولته السفير الإسرائيلى بعد مرور ٢٣ عامـًا.
اللّواء أركان حرب أحمد حمدى
من أهم القيادات التي شاركت في صنع انتصار أكتوبر ١٩٧٣م. تولى قيادة لِواء المهندسين بالجيش الثانى الميدانى، الذي كان يختص بتنفيذ الأعمال الهندسية، كما قاد لواء الكبارى بالجيش الثالث الميدانى. وكان لقيادته أعظم الأثر في حرب أكتوبر ١٩٧٣م. كما شارك في صد العُدوان الثلاثى على مِصر في ١٩٥٦م، وفى حرب ١٩٦٧م، وأيضـًا في حرب أكتوبر ١٩٧٣م التي استُشهد فيها يوم الرابع عشر من الشهر نفسه، ذٰلك اليوم الذي اُختير فيما بعد ليكون يوم المهندس وعيدًا للمهندسين.وُلد أحمد حمدى في العشرين من مايو عام ١٩٢٩م، في مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية. تخرج في قسم الميكانيكا بكلية الهندسة جامعة القاهرة. ولأنه مِصرى يعشق تراب بلاده ويرغب في خدمتها، التحق بـالقوات الجوية عام ١٩٥١م، وعمِل في سلاح المهندسين عام ١٩٥٤م. درس في الاتحاد السوفيتى ليحصل بتقدير امتياز على دورة القادة والأركان من أكاديمية فرونز العسكرية العليا هناك.
وكل من عرَف اللّواء أحمدى حمدى شهِد له بهدوء الطبع، مع كفاءة عالية في عمله، وأنه كان يعمل بلا توقف، ويبذُِل الجهد بإخلاص وأمانة وتفانٍ، حاملاً إصرارًا عظيمـًا في أعماقه لإتمام العمل مهما احتاج من جهد أو وقت.
وما إن انضم اللُّواء أحمد حمدى إلى سلاح المهندسين بالقوات المسلحة، حتى بدأ في صنع البُطولات والتضحيات من أجل مِصر؛ فقد قام بتفجير جسر الفردان في حرب ١٩٥٦م، مانعـًا العدُو من استخدامه والمرور عليه. كذٰلك أبطل كثيرًا من الألغام قبل انفجارها، ما دعا زملاءه إلى إطلاق لقب صاحب اليد النقية عليه.
رفض اللّواء أحمد حمدى الانسحاب في حرب ١٩٦٧م إلا بعد تدمير خطوط توصيل المياه في سيناء، حتى لا تقع في يد العدُو؛ وذكرنى موقفه هذا برفض اللّواء فؤاد عزيز غالى أن تتراجع قواته إلى غرب القناة، في أثناء الثُّغرة وحصار الجيش الثالث الميدانى في ١٩٧٣م، مقدِّمــًا كلاً من هذين القائدين أروع نماذج الصمود والتحدى وحب الوطن.
كان أحمد حمدى متقد الذهن، لا يتوقف عن التفكير والعمل؛ فهو صاحب فكرة مراقبة تحركات العدُو من خلال إقامة نقاط لمراقبة القناة من أبراج حديدية بين الأشجار على شاطئ القناة الغربى، في وقت لم تكُن وسائل أخرى للمراقبة؛ وقد لاقت فكرته هذه القَبول ونُفِّذت. كذلك كان له دور أساسى في عملية تطوير الجُسور الروسية المستخدمة في عملية العُبور من حيث ملاءمتها لطبيعة قناة السويس، وأيضـًا في سرعة تركيبها؛ ليحقق إنجازًا كبيرًا في تعديل مدة التركيب لتُصبح ٦ ساعات بدلاً من ٧٤ ساعة.
ويصف أحد رجاله من الوِحدة ٩٩ ـ مهندسين ـ كبارى أنهم بقيادة العقيد آنذاك أحمد حمدى، قاموا بإنشاء قواعد الصواريخ، وأنه قام بتدريبهم على أعمال العُبور، وكان حريصـًا على اختيار المناطق التي تحاكى أماكن العُبور الفعلية في قناة السويس مثل البدرشين والحوامدية والقناطر. هذا إلى جانب تدريبه إياهم على فتح السواتر الترابية، مع استطلاع مياه القناة ومجراها واتجاهات وسرعة الرياح، وهو ما أداه رجاله بمهارة فائقة تشهد لعبقرية التدريبات التي أدَّوها في ظل قيادته، ولنجاح لا مثيل له في تدريب وِحْدات كبارى الجيش الثالث على أعظم عمليات العُبور وأعقدها، وهو ما قد شهِد لها العالم بأسره أيضـًا. وعن عمله الدؤوب، ذُكر أنه كان يُرى: عائدًا في الساعات المتأخرة من الليل من الخطوط الأمامية، بعد أن يكون قد أشرف على تنفيذ عمل هندسى تقوم به القوات أو الوِحْدات الهندسية.
وما إن بدأت المعركة، حتى انضم اللّواء أحمد حمدى إلى الخطوط الأمامية وسْط رجاله الأبطال، وهو ما قبِلته قيادة القوات المسلحة بعد إلحاح شديد منه، ليشاركهم العمل في تركيب الجُسور على القناة حتى تمت إقامة عدد منها في وقت قياسى، تحت تغطية الطيران والمِدفعية المِصرية، وليقضى ليلة مرهقة خالية من النوم والطعام، يتنقل من معبر إلى آخر، إلى أن بدأ تشغيل معظم تلك الجُسور والمعابر.
وفى اليوم الرابع من أكتوبر عام ١٩٧٣م، في أثناء مشاركة البطل أحمد حمدى لجنوده في عملية إعادة إنشاء لأحد جُسور الجيش الثالث قد نالته إصابات جسيمة من العدُو، حتى تتمكن بعض القوات الخاصة من العبور عليه لأداء مهام ضرورية، لاحظ هو مجموعة من البراطيم (كتل خشبية غليظة) تهدد ذلك الجسر بالانهيار. وفى لحظات، أسرع أحمد حمدى إلى ناقلة برمائية ليقودها بنفسه ويسحب بها تلك البراطيم بعيدًا عن مِنطَقة العمل، ثم عاد إلى جنوده لإكمال المُهمة، هذا مع أن قصف العدُو لا يتوقف لإجبار قواتنا الباسلة على التوقف عن إنشاء مزيد من الجُسور. وبينما القائد والبطل وسْط جنوده، يطلب إليهم الاحتماء من نيران العدُو، إذ يصاب بشظية متطايرة! ليقضى آخر لحظات من حياته شهيدًا وسطهم، مثلما كان دائمـًا بينهم، مانحـًا حياته فداء مِصر، ضاربـًا المثل الأعلى والقُِدوة للقائد الحقيقى.
معـًا من أجل مِصر
وما يشُد الانتباه في حرب أكتوبر هو المحبة الشديدة والتكاتف والوَحدة بين الجميع من أجل مِصر وتحقيق النصر؛ فنجد من القِصص المئات التي تشارك فيها أبطال شعبنا الواحد معـًا؛ ومنهم:
غريب عبدالتواب أحمد وشنودة راغب
هما من أبطال الصاعقة المِصرية، وتدربا وعمِلا من أجل إهداء النصر إلى مِصر التي أحباها، إلى أن بذلا حياتهما لأجلها وهُما معـًا.
وُلد غريب عبدالتواب في الواسطة بمحافظة بنى سويف عام ١٩٤٨م. وفى عام ١٩٦٨م، تخرج في الكلية الحربية. رُقى إلى رتبة نقيب في يناير من عام ١٩٧٣م، ثم قائدًا لسَرية صاعقة، كان أحد أفرادها شنودة راغب الذي لا نعرِف عن حياته سوى بطولته.
عبر البطلان، مع مجموعة الصاعقة، قناة السويس، وتسلقا الساتر الترابى ليصلا إلى سيناء الغالية؛ وهناك على الأرض المِصرية قامت المجموعة التي يقودها الرائد غريب عبدالتواب أحمد بالاشتباك مع القوات الإسرائيلية التي قامت بدورها بهجوم مضاد في اتجاه الشاطئ. وكما اعتاد المِصريُّون أن يقدِّموا إلى العالم أنبل مشاهد الشجاعة والبسالة، تمكن أبطال الصاعقة من تدمير بعض الدبابات الإسرائيلية. فإذا ثلاث دبابات تتوجه ناحية البطلين غريب وشنودة، ليواجه غريب عبدالتواب إحداها بجسده! في حين يُطلق شنودة راغب رشاشة، رافضـًا ترك قائده بعد إصابته، في إصرار على حمله بعيدًا عن نيران العدُو! ليُستَشهدا معـًا، وكل منهما يمسك بالآخر وبسلاحه، بعد أن واجها ثلاث دبابات بجسديهما قبل سلاحيهما! وهكذا خطّا الاثنان معـًا على صفحات التاريخ العسكرى قصة محبة خالدة، ضاربة القِدَم، تسرى في أوصال شعب واحد نحو وطنه المُفَدَّى مِصر، الذي ما يزال الحديث عن أبطاله في أكتوبر المجيد ممتدًّا، و… وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ