عرضت المقالة السابقة عددًا من الأحداث الدامية التى شهِدتها مدينة السلام سنة ١٩٤٨م، إذ بلغت الاشتباكات بين الفلسطينيين يساندهم العرب، وبين اليهود تساندهم بريطانيا، شدتها: كتعويق حركة وسائل النقل وخطوط المواصلات والتموين اليهودية، وقطع المياه والمُؤَن عن اليهود فى «القدس»، و«معركة شُعْفاط» فى مارس ١٩٤٨ التى أسفرت عن مصرع ١٤ مقاتلًا، وإصابة ١١ يهوديًّا، وجريحين فلسطينيين من الجانب العربى. ثم شهِدت مدينة «القدس» أعمالًا دموية عنيفة شهرى إبريل ومايو، أشهرها مجزرة «دير ياسين» فى التاسع من إبريل.
و«دير ياسين» قرية تقع غربى مدينة «القدس»، على تلّ يرتفع ٨٠٠ متر فى مواجهة الضواحى الغربية اليهودية بـ«القدس»، التى شملت ٦ مستعمرات يهودية أقربها إلى القرية مستعمرة «جِڤعات شاؤول». وقد فصل بين القرية والمستعمرات وادٍ به أشجار الزيتون واللوز والتين وكروم العنب. وارتبطت القرية بالعالم الخارجى عن طريق واحد يمر بـ«جِڤعات شاؤول» ومنها إلى «القدس». وتُعد قريتا «عين كارم» و«لِفتا» أقرب القرى إلى «دير ياسين».
وفى فجر يوم الجمعة ٩/٤/١٩٤٨م، شهِدت القرية أحد أبشع الأحداث فى العصر الحديث، حيث هاجمها عدد من أفراد منظمتى «الأرجون» و«اشتيرن» الصهيونيتين فى محاولة للاستيلاء عليها؛ وقد جاء الهجوم بعد أسبوعين من توقيع معاهدة سلام تقدم بها رؤساء المستوطنات اليهودية ووافق عليها أهل القرية. وقد فوجئ المهاجمون بدفاع أهل القرية عن أرضهم؛ ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى بين صفوف الصهاينة، الذين لجؤوا إلى «الهاجاناه» (كلمة عبرية معناها «الدفاع»)- كانت قيادة المنظمة العسكرية بـ«القدس» والنواة الأولى للجيش الإسرائيلى الذى تكوَّن فيما بعد- وبعد أن وصلتهم التعزيزات أطلقوا أعيرة نارية على أهالى القرية، ليسقط أهلها رجالًا ونساءً وأطفالًا وشيوخًا!. ويذكر «موقع القدس»: «ولم تكتفِ العناصر اليهودية المسلحة من إراقة الدماء فى القرية، بل أخذوا عددًا من القرويين الأحياء بالسيارات، واستعرضوهم فى شوارع الأحياء اليهودية وسط هُتافات اليهود، ثم العودة بالضحايا إلى قرية «دير ياسين». وانتُهكت جميع المواثيق والأعراف الدولية حيث جرى أبشع أنواع التعذيب»!. ويقدَّر عدد الضحايا بين ٢٥٠ و٣٦٠ وَفقًا للمصادر العربية والفلسطينية. وقد تسببت المذبحة فى تزايد عدد المهاجرين الفلسطينيين إلى البلاد العربية، وتألّف الجيش العربى الذى خاض معركة ١٩٤٨م. أما القرية التى بلغت مساحتها ٢٧٠٠ دَونَم، ويعيش بها قرابة ٧٥٠ نسمة، فقد استوطنها اليهود، وسنة ١٩٨٠م قيل إنهم أعادوا بناءها فوق مبانيها الأصلية، وأطلقوا على شوارعها أسماء مقاتلى «الأرجون» الذين نفذوا المذبحة!. وهكذا صارت «القدس»، مدينة السلام، مسرحًا للأحداث الدامية والصراعات.
من الجدير بالذكر أن إعلان اليهود قيام دولة «إسرائيل» وانتهاء الانتداب البريطانى على «فلسطين» قد سبقه إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة موافقتها على قرار تقسيم «فلسطين» إلى دولة يهودية (٥٦٪ من مساحة «فلسطين» الكلية)، ودولة عربية (٤٣٪ من المساحة) فلسطينية وتدويل منطقة القدس (١٪ من المساحة)، وذلك فى ٢٩/١١/١٩٤٧م؛ وهو قرار قوبل برفض فلسطينى وعربى، وبترحيب يهودى. وقد كوَّن العرب جيشًا سمُّوه «جيش الإنقاذ» يستهدف طرد الجماعات اليهودية من «فلسطين»، وفى المقابل كُلف القائد العام المساعد للجيش الإسرائيلى بوضع خُطة، عُرفت باسم «خطة دالت»، لمواجهة التدخل العربى.
ومع اللحظات الأولى من منتصف ليلة ١٥/ ٥/ ١٩٤٨م، أعلنت الحكومة البريطانية إنهاء انتدابها فى «فلسطين»، فى الوقت الذى قبل ذلك بساعات أعلن المجلس اليهودى بـ«تل أبيب» قيام دولة يهودية فى «فلسطين» بمجرد انتهاء الانتداب.
ومع إعلان قيام دولة «إسرائيل»، بدأت المواجهة بين «جيش الإنقاذ» العربى ومنظمة «الهاجاناه» اليهودية واندلعت شرارة الحرب، و… ولا يزال حديث «القدس» يأخذنا، والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى