تحدثنا في المقالة السابقة عن الخير الذي «لا يموت»، الذي يغير البشر فيربح الناس أصدقاء، ويضيء العالم، الخير الذي يُسرع إلي الجميع دون انتظار.
والخير المطلق هو سمة من سمات الله ـ جل جلاله، أما خير الإنسان فهو ينبَُِع من هٰذا الخير المطلق، إلا أن خير الإنسان نسبيّ يقوم به بحسب مقدار فَهمه وطاقته.
وجميع الأديان تدعو إلي الخير؛ ففي التوراة كتب داود في سفر المزامير: «حِدْ عَنِ الشَّرِّ، وَاصْنَعِ الْخَيْرَ. اُطْلُبِ السَّلاَمَةَ، وَاسْعَ وَرَاءَهَا.». كذٰلك سليمان الحكيم يطلب من الإنسان ألا يتوقف عن فعل الخير عندما يكون متاحًا له: «لَا تَمْنَعِ الْخَيْرَ عَنْ أَهْلِهِ، حِينَ يَكُونُ فِي طَاقَةِ يَدِكَ أَنْ تَفْعَلَهُ.». وورد في سفر إِشَعْياء: «تَعَلَّمُوا فَعْلَ الْخَيْرِ. اُطْلُبُوا الْحَقَّ.»
وفي الإنجيل: «اَلْمَحَبَّةُ فَلْتَكُنْ بِلاَ رِيَاءٍ. كُونُوا كَارِهِينَ الشَّرَّ، مُلْتَصِقِينَ بِالْخَيْرِ.»، « هٰكَذَا هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ: أَنْ تَفْعَلُوا الْخَيْرَ…»، وورد أيضًا: «أَيُّهَا الْحَبِيبُ، لَا تَتَمَثَّلْ بِالشَّرِّ بَلْ بِالْخَيْرِ، لِأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ الْخَيْرَ هُوَ مِنَ اللهِ، وَمَنْ يَصْنَعُ الشَّرَّ، فَلَمْ يُبْصِرِ اللهَ.».
وفي القرآن نجد الدعوة إلي فعل الخير؛ ففي سورة الحج: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ٱرْكَعُوا وَٱسْجُدُوا وَٱعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. كذٰلك في سورة النساء: ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾. وفي سورة آل عمران: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَي الْخَيْرِ﴾.
الإنسان الخيِّر.. هو إنسان متواضع، يُدرك أن فعل الخير الذي يؤتيه هو من الله صانع الخيرات لجميع البشر، لا من ذاته، فلا يعتبره تفضلًا علي أحد؛ بل يشكر الله الذي سمح له أن يشترك في صنع ذٰلك الخير. كذٰلك فإنه إنسان محب للخير، لا يقوم به خوفًا من أحد، أو انتظارًا للمدح، بل يقدم كل ما يمكنه من خلال محبة حقيقية لله وللآخرين وللخير نفسه، ولا ينتظر ردًا أو مقابلًا له. إنه يكون مثل الملائكة التي تنتقل من مكان إلي آخر تزرع الخير بين البشر دون مكافأة أو تكريم، بل تفرح بتقديم السعادة لمن يلتقوه. وبذٰلك يصير الخير طريقًا يسلكه صانعوه كل أيام حياتهم.
والإنسان الخيّر لا يلجأ إلي الوسائل الخاطئة لمساعدة الآخرين، ولٰكنه يفكر ويبذُل جُهدًا لكي يقدم هٰذا الخير بأسلوب صحيح؛ فعلي سبيل المثال: إذا أراد أن يساعد طالبًا مقبلًا علي أداء الامتحانات وتمر به بعض الظروف الصعبة أو القاسية، لا يبحث عن وسيلة لتسهيل الغش له، بل يساعده في استذكار دروسه وبذل كل مجهود للنجاح، وهو يعلم أن الله ينظر إلي هٰذا التعب ويباركه ويتمم الخير لهٰذا الشخص. مثال آخر في العمل: عندما يرغب الخيّر في مساعدة إنسان، لا يقوم بالعمل بدلًا منه، أو بإعفائه منه، بل يساعده بتعليمه وتدريبه علي كيفية أداء العمل وإتقانه؛ وهنا أتذكر المثل الصينيّ الذي يقول: «علِّم ابنك أن يصطاد بدلًا من أن تقدم إليه سمكة». فاليوم أنت تقوم بالعمل بدلًا منه، فماذا عن الغد؟ وهل، إن أديتَ العمل بدلًا منه، كنتَ حقًّا مقدمًا إليه الخير؟! لذا فالخير الحقيقيّ أن تساعد الذين حولك في اكتشاف قدراتهم وتنمية إمكاناتهم التي وهبها الله لهم؛ فتكون قد قدمت الخير إليهم حقًّا. وهنا أتذكر «آبراهام لنكولن»… وللحديث بقية..
لأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ